portbail
17-07-2007, 03:32 AM
أن تعيش لتحكي...مذكرات ماركيز
أخوتي الاحبة
الكاتب العالمي جابريل جارسيا ماركيز كتب منذ مدة ليست بالطويلة مذكراته و التي تحمل اسم " أن تعيش لتحكي" و قد تم ترجمة هذه المذكرات للكثير من اللغات و لكنها لم تصدر بعد باللغة العربية، و لكن الدكتور طلعت شاهين يقوم بالوقت الراهن بترجمتها.
البداية :
الطريقة الوحيدة للوصول من' بارانكيو' إلي' اراكاتاكا' هي استخدام قارب بخاري قديم من تلك القوارب التي كانت تسير بقوة دفع تجديف العبيد في زمن الاستعمار الأسباني يسير في تلك المياه العكرة إلي أن يتم الوصول إلي تلك القرية الغريبة المسماة' ثيناجواس لم يتوقع أحد أن يقوم الكاتب الكولومبي الحاصل علي جائزة نوبل للآداب عام1982 بكتابة مذكرات شخصية لأنه لم يكن معروفا عنه أنه يميل إلي ذلك النوع من الكتابة خاصة أنه كان يعلن دائما أن رواياته هي إعادة لكتابة ذكرياته خلال الطفولة التي عاشها في بيت جده' الكولونيل' في قرية' اراكاتاكا' التي تقع علي نهر' ثيناجا' في قلب مزارع الموز الشهيرة التي كانت تسيطر الشركات الأمريكية من خلالها علي مقدرات البلاد ومن ثم فإنه لا مجال لكتابة مذكرات شخصية لأن تلك المذكرات تتضمنها رواياته.
لكن عندما وقف الكاتب أمام الجمهور في مهرجان كبير في المكسيك قبل ثلاث سنوات ليقرأ صفحات كتبها عن حياته الخاصة اكتشف أنها عقدت ألسنة الواقفين والجالسين وكانت الصفحات التي قرأها' جابرييل جارثيا ماركيز' عبارة عن ذكرياته وقت أن كتب روايته التاريخية' الجنرال في مصيدته' وكيف أن تلك الرواية وليدة لمذكراته التي قرأها الكاتب لكنه أعلن أن هذه الكتابة التي يعتبرها البعض مذكرات شخصية ليست سوي بعض الكتابات التي قرر أن يسجل فيها أشياء خاصة بحياته حسب ترتيبها التاريخي وهذا الفصل الذي بدأ به جابرييل جارثيا ماركيز مذكراته يقص فيه الكاتب جزءا من حياته عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره عندما لم يكن يحلم سوي بأن يكون كاتبا.
واليوم نقدم للقارئ العربي ترجمة لهذا الفصل الذي كان أساس كتابة الجزء الأول من تلك المذكرات التي صدرت هذا الأسبوع في طبعة من مليون نسخة تم تقديمها في كل من برشلونة وبوجوتا وبوينس ايريس والمكسيك في وقت واحد لتكون أضخم طبعة لكتاب واحد في التاريخ ولا يعرف أحد ولا الكاتب نفسه عدد الأجزاء التي ستصدر لاحقا لاستكمال هذه المذكرات, ولكن دار النشر أعلنت أن لديها جزءين آخرين تعدهما للنشر في وقت لاحق وربما يصل عدد أجزاء هذه المذكرات إلي أكثر من خمسة أجزاء وهناك من يتوقع أن يصل عدد أجزاء هذه المذكرات إلي ثمانية أو تسعة نظرا لشخصية الكاتب التي عاشت أحداثا جساما نظرا لامتهانة مهنة الصحافة قبل وبعد حصوله علي جائزة نوبل للآداب عام1982 وتعدد مواهبه التي تنقلت به ما بين الريبورتاج الصحفي والقصة القصيرة والرواية والسيناريو السينمائي.
طلبت مني أمي أن أرافقها لبيع البيت, كانت قد وصلت هذا الصباح من تلك القرية البعيدة التي تعيش فيها الأسرة, ولم تكن تعرف أين يمكنها أن تعثر علي وبسؤالها بعض الأصدقاء والمعارف هنا وهناك أشاروا عليها بالبحث عني في المكتبة العامة أو في المقاهي القريبة من المكتبة, تلك المقاهي التي أذهب إليها يوميا في الواحدة والسادسة مساء للتسلي بالحديث مع الأصدقاء من الكتاب ومن أخبرها عن مكاني حذرها:' كوني حذرة في تعاملك معهم إنهم مجانين'.
وصلت أمي في الثانية عشرة تماما فتحت طريقها مباشرة بين أكوام الكتب المعروضة وهي تسير بمشيتها الخفيفة وقفت أمامي مباشرة ونظرت في عيني بابتسامتها الخبيثة المعروفة عنها منذ أيامها الطيبة وقبل أن استعيد توازني قالت لي: أنا أمك
شيء ما تغير فيها لم يجعلني أتعرف عليها منذ الوهلة الأولي كانت في الخامسة والأربعين من عمرها ولم نكن قد التقينا منذ أربع سنوات لو حسبنا المواليد التي ألقت بأطفالها الأحد عشر إلي العالم إضافة إلي عشر سنوات من الانتظار ومثلها لتربية أولادها, فإننا نجد أن الشيخوخة أصابتها قبل موعدها كانت عيناها الواسعتان تحملقان في من خلف عويناتها مزدوجة الزجاج وكانت ترتدي السواد الكامل الجاد حزنا علي موت أمها الذي وقع قبل قليل, لكنها كانت لا تزال تحافظ علي ذلك الجمال الروماني الذي بقي كاملا في صورة زفافها وتحول الآن إلي نوع من الجمال الأرستقراطي. قبل كل شيء وقبل أن تعانقني قالت لي بطريقتها الرسمية المعروفة عنها دائما:
جئت أطلب منك جميلا أن ترافقني لبيع البيت
لم تقل لي أي بيت ولا أين يوجد هذا البيت لأنه بالنسبة لنا لم يكن لنا سوي بيت واحد في هذا العالم: بيت الأجداد القديم في' اراكاتاكا' الذي كان من حظي أن أولد فيه والذي خرجت منه بلا عودة قبل أن أكمل الثامنة من عمري في تلك اللحظة التي جاءت فيها أمي كنت تركت الدراسة في كلية الحقوق بعد ستة أشهر من بدء الدراسة وقررت التفرغ تماما للقراءة والكتابة وأحفظ عن ظهر قلب أشعار العصر الذهبي الأسباني. قرأت جميع الكتب المؤلفة والمترجمة عن تعلم فن كتابة الرواية ونشرت أربع قصص في ملاحق الصحف أثارت تشجيع أصدقائي ولفتت انتباه بعض النقاد كنت علي وشك أن أكمل الثالثة والعشرين من عمري في الشهر التالي, أصبحت هاربا من أداء الخدمة العسكرية أدخن ستين سيجارة في اليوم بلا توقف أوزع أوقات فراغي ما بين' برانكيو' و'كارتاخينا دي أندياس' علي شاطئ الكاريبي في كولومبيا كنت أحاول أن أعيش بكل ما أستطيع من خلال القليل الذي دفعوه لي ثمنا لما كنت أكتبه من أخبار في الصحف والتي لم تكن تعني شيئا كنت أحاول أن أنام علي أفضل ما أستطيع في أي مكان يفاجئني فيه الليل أفعل ذلك ليس حبا في المكان بقدر ما هو قلة ذات اليد كنت أسبق' المودة' بعشرين عاما: شارب كث متوحش وشعر منفوش وبنطلون كاوبوي وقمصان مشجرة بزهور كبيرة ملونة. وصندل يشبه صنادل الحجاج الفقراء. سمعت بعض الأصدقاء مرة يتحدثون عني في إحدي صالات السينما المعتمة دون أن يعرفوا أنني كنت بالقرب منهم قالت إحدي الصديقات لرفيقها:' جابيتو المسكين حالته ميئوس منها'. لذلك عندما طلبت مني أمي أن أرافقها لبيع البيت لم أمانع في ذلك. أخبرتني أنها لا تملك مالا كافيا وحفاظا علي الكرامة أخبرتها أنني سأتولي مصروفاتي. لم يكن ممكنا الحصول علي المال المطلوب من الصحيفة التي كنت أعمل فيها كانوا يدفعون لي ثلاث بيزات عن الخبر اليومي وأربعة عن كتابة الافتتاحية عندما كان يغيب محررها لكنها لم تكن كافية لأعيش منها حاولت الحصول علي قرض لكن المدير ذكرني بأنني مدين بما يزيد علي ثمن مائة خبر يومي. يبدو أنني طلبت أكثر مما يجب لذلك لم يكن أي من أصدقائي قادرا علي تلبية طلبي. عند خروجي من مقهي' كولومبيا' الواقعة إلي جوار المكتبة التقيت بالسيد' رامون فينيس' الأستاذ وبائع الكتب القطالوني العجوز وطلبت منه عشرة بيزات علي سبيل الاقتراض لكنه لم يكن يملك سوي ستة فقط.
لا أمي ولا أنا كان يمكننا تصور أن تلك الرحلة القصيرة لمدة يومين يمكن أن تكون رحلة حاسمة في حياتي وحتي أطول حياة يمكن أن أعيشها تجعلني أستطيع أن أسيطر علي ذلك التأثير, الآن وبعد أن بلغت السبعين أعرف أن تلك الرحلة كانت القرار الأهم من كل القرارات التي اتخذتها طوال حياتي ككاتب أي في حياتي كلها.
لم أكن قد زرت اراكاتاكا منذ أربعة عشر عاما منذ أن مات جدي لأمي وأخذوني لأعيش مع والدي في بارانكيا خلال مراهقتي كانت ذاكرتي أكثر وعيا بالمستقبل منه بالماضي ذلك عند هذه الزيارة لم تكن ذكرياتي في القرية قد تمثلتها الذاكرة بعد, كانت الذاكرة تعي القرية كما كانت: مكان طيب للحياة فيه حيث كل الناس تعرف كل الناس, قريبة من شاطئ نهر ذي مياه هادئة تهبط من مهد من الحجارة المنحوتة بيضاء وضخمة وتشبه بيضا يعود إلي فترة ما قبل التاريخ. في لحظة غياب الشمس خاصة في شهر سبتمبر وبعد لحظات المطر الذي يحول الهواء إلي قطع من الماء كانت جبال' سييرا نيفادا دي سانتا مارتا' تبدو كما لو كانت تقترب بصدرها الأبيض من مزارع الموز الموجودة علي الشاطئ المقابل. من هناك كان يمكن رؤية الهنود الحمر يسيرون في طوابير كالنمل الزاحف علي جوانب الجبال وهم يحملون علي ظهورهم أحمال الزنجبيل ويمضغون كرات الكوكا ليوقفوا مسيرة الحياة. كنا نحن الأطفال نحلم بصنع كرات من الثلوج الأبدية ونلعب لعبة الحرب علي أرض الشوارع الحارقة, فقد كانت الحرارة ثقيلة لا تحتمل خاصة في أوقات القيلولة, الكبار يشتكون من الحرارة كما لو لم تكن مفاجأة كل يوم فقط. منذ مولدي وأنا أسمع بلا انقطاع أن خطوط السكك الحديدية ومعسكرات شركة' اتحاد الفاكهة' تم إقامتها ليلا لأنه كان من المستحيل الإمساك بالعدد اليدوية الساخنة تحت الشمس.
الطريقة الوحيدة للوصول من' بارانكيو' إلي' اراكاتاكا' هي استخدام قارب بخاري قديم من تلك القوارب التي كانت تسير بقوة دفع تجديف العبيد في زمن الاستعمار الأسباني يسير في تلك المياه العكرة إلي أن يتم الوصول إلي تلك القرية الغريبة المسماة' ثيناجواس'. من هناك يمكن استخدام القطار العادي الذي كان يوما من أفضل ما يوجد في البلاد يسير المسافة المتبقية عبر حقول الموز الشاسعة مسافة تتخللها وقفات في العديد من القري المتربة الحارقة أو المحطات المنعزلة. تلك كانت الرحلة التي بدأنا أمي وأنا في السابعة من مساء شهر فبراير عام1950- كان يوم أحد الكرنفال- السماء تمطر ثلجا علي غير العادة ولم نكن نملك سوي اثنين وثلاثين بيزو احتفظنا بها تحسبا للعودة إذا لم يتم بيع البيت طبقا لما خططناه له.
كانت الرياح قوية في تلك الليلة مما جعلني أبذل مجهودا كبيرا لإقناع أمي بالصعود إلي القارب البخاري, كانت محقة في رفضها, المركب عبارة عن هياكل مشابهة لتلك المعروفة في' نيو أورليانز' لكنها تعمل بموتورات جاز تهز أجساد الركاب بشكل عنيف مكونة من صالون صغير بخطاطيف لتعليق أسرة' الهاماكا' علي مستويات مختلفة إضافة إلي كراسي من الخشب علي الركاب أن يحاولوا الجلوس عليها كيفما اتفق إلي جوار حاجياتهم من البضائع وأقفاص الدجاج وحتي الخنازير الحية. هناك عدة قمرات بسريرين من تلك الأسرة التي تشبه أسرة الجنود في المعسكرات تشغل هذه القمرات بشكل شبه دائم' عاهرات' من أسفل الدرك في تلك المهنة يقدمن خدماتهن السريعة خلال الرحلة. ولأننا لم نجد قمرة خالية ولم تكن معنا أسرة متنقلة' هاماكا' استولينا عنوة علي كرسيين من الكراسي الحديدية الموجودة في الممر الرئيسي وقررنا تمضية الليلة هناك.
كما كنت أتوقع هاجمت العاصفة المركب خلال إبحارها في مياه نهر' المجادلينا' الذي كانت مياهه في حركتها تشبه مياه المحيط رغم ضيق مجراه, اشتريت في الميناء مؤنتي من أرخص أنواع السجائر المصنوعة من التبغ الأسود الملفوف في ورق جاف مكرمش وبدأت في التدخين علي الفور علي طريقتي في تلك الأيام, إشعال السيجارة من بقايا السيجارة السابقة أثناء انهماكي في قراءة ضوء أغسطس لوليم فوكنر ذلك الكتاب الذي كان أقرب الكتب إلي قلبي أمسكت أمي بمسبحتها وبدأت صلاتها وكأنها تشد إلي يديها طائرة معلقة في الهواء وكعادتها لم تطلب لنفسها شيئا, كل أمنياتها طول العمر والصحة والعافية لأبنائها اليتامي الأحد عشر يبدو أن صلاتها وصلت إلي المكان الذي كانت تتوجه إليه, فالمطر العنيف خفف من حدته عندما تعمقنا في مجري النهر وهب نسيم خفيف كان كافيا لإزاحة الذباب. ثم قامت بإخفاء المسبحة وبقيت لفترة طويلة تتأمل الصمت وعجيج الحياة التي تجري من حولنا.
ولدت أمي في بيت متواضع وشبت علي الحياة المرفهة لشركة الموز وهو ما أتاح لها تعليما رفيعا في مدرسة خاصة بأبناء الأثرياء في' سانتا مارتا' وكانت في إجازات أعياد الميلاد تمارس فن التطريز مع صديقاتها وتعزف الأكورديون في الحفلات الخيرية وكانت تذهب برفقة عمة لها إلي حفلات الرقص التي كانت تقيمها الأرستقراطية المعروفة في ذلك الوقت لكن لا أحد كان يعرف لها رفيقا حتي زواجها الفجائي من عامل التلغراف ضد رغبة والديها, من فضائلها المعروفة حبها للفكاهة وصحتها الحديدية التي لم تستطع الأوضاع السيئة للحياة أن تنال منها لكن الأكثر إدهاشا محاولتها إخفاء شخصيتها القوية بشكل يثير الإعجاب. إنها مجموعة من التراكيب المكتملة هذا جعلها تفرض علي من حولها سلطة أمومية استطاعت أن تفرضها حتي أبعد الأقرباء منها في العائلة كانت سلطتها تبدو كتركيب كوكبي تديره من مطبخها الخاص بصوت خفيض حاد لا يضيع في غليان زهور المريمية.
مشاهدة تقبلها لمتاعب لتلك الرحلة المفجعة تجعلني أتساءل كيف استطاعت الدخول بسرعة في بؤس الفقر والظلم ولم يكن هناك افضل من تلك الليلة لامتحان قدرتها العجيبة. ما بين الذباب القاتل والحر الثقيل والمثير للغثيان بسبب تلك المياه الراكدة التي تقلبها المركب في طريقها, حركة المسافرين القلقين الذين لم يعجبهم حال الرحلة كما لو كان كل هذا معدا بشكل مسبق لامتحان قدراتها, كانت أمي تحتمل كل هذا ساكنة في كرسيها فيما كانت فتيات الليل تمارسن عملهن في قمراتهن القريبة, إحداهن خرجت ودخلت عدة مرات من قمرتها الملتصقة بكرسي أمي وفي كل مرة تتأبط ذراع رجل مختلف. اعتقدت أنها لم تلاحظ هذا لكنها في المرة الرابعة أو الخامسة التي خرجت ودخلت فيها الفتاة خلال ساعة واحدة تابعتها أمي بنظرة أسف حتي نهاية الممر ثم تنهدت:
مسكينات هؤلاء الفتيات ما يفعلنه لمواجهة الحياة ألعن من العمل نفسه.
ظلت هكذا حتي حلول منتصف الليل عندما تعبت من متابعة القراءة بسبب اهتزازات المركب التي لا تحتمل وأضواء الممر الشاحبة, جلست إلي جوارها أدخن محاولا عبور الرمال المتحركة لمقاطعة' يوكناباتوافا'. كنت قد هربت من الجامعة قبل عام مضي في محاولة لممارسة مهنة الصحافة والأدب دون أن أكون في حاجة إلي دراستهما شجعني علي هذا جملة لبرنارد شو تقول:' منذ صغري توقفت عن الذهاب إلي المدرسة'. لم أكن في حاجة إلي مناقشة هذا مع أي شخص لأنني كنت أشعر أنني غير قادر علي إقناع الآخرين وأسبابي لن تكون مفهومة من أي شخص آخر غيري.
محاولة إقناع والدي بقبول مثل هذا الجنون بعد كل الآمال التي وضعوها في والأموال التي أنفقوها كان مجرد تضييع للوقت خاصة أبي الذي كان علي استعداد للتسامح معي في أي شيء إلا أن لا أعلق علي الحائط أي شهادة أكاديمية لم يستطع هو شخصيا الحصول عليها. العلاقات بيننا انقطعت تماما. بعد مرور حوالي سنة حاولت أن أزوره لأشرح له أسبابي لكن أمي عندما ظهرت من جديد طلبت مني أن أرافقها لبيع البيت. مع ذلك لم تحاول أن تفتح الموضوع معي حتي حلول منتصف الليل عندما شعرت بشيء غير طبيعي يؤكد أنها وجدت الطريق إلي الحديث في السبب الرئيسي لزيارتها لي وبدأت باكتشافها للطريقة ورنة الصوت والكلمات الموزونة المناسبة التي نضجت في غفواتها الوحيدة قبل أن تبدأ الرحلة بفترة طويلة.قالت لي:
أبوك حزين جدا.
حلت لحظة مواجهة الجحيم إنها تبدأ كالمعتاد في اللحظة غير المتوقعة بصوتها الواثق الذي لا يهتز في مواجهة أي شيء وسألتها فقط حتي يكتمل الطقس لأنني كنت أعرف الإجابة مسبقا:
لم كل هذا.
لأنك تركت الدراسة.
قلت لها:
لم أتركها فقط غيرت اتجاه الدراسة.
فكرة الدخول في حوار عميق حول الموضوع زادتها حماسة فقالت:
أبوك يقول إن الأمر سيان.
قلت لها:
هو أيضا ترك الدراسة ليعزف علي الكمان.
ردت هي بحيوية:
'الأمر مختلف كان يعزف الكمان فقط في الاحتفالات والأعياد وإذا كان قد ترك الدراسة ذلك لأنه لم يكن يملك شيئا لكنه تعلم التلغراف في أقل من شهر كانت في ذلك الوقت مهنة ممتازة خاصة في' اراكاتاكا''.
كذبت عليها:
أنا أعيش من الكتابة في الصحف.
قالت هي:
'أنت تقول هذا لتنكد علي لكن سوء أحوالك يبدو واضحا عندما التقيتك في المكتبة لم أتعرف عليك'.
قلت لها:
أنا أيضا لم أتعرف عليك.
قالت هي:
لكن ليس لنفس السبب اعتقدت أنك شحاذ.
نظرت إلي الصندل القديم وأضافت:
وبلا جوارب.
قلت:
'أكثر راحة قميصان وقطعتان من الملابس الداخلية إحداهما ارتديها والأخري تجف ماذا احتاج أكثر من ذلك'.
قالت هي:
شيء من الكرامة.
لكن يبدو أنها قالت ذلك دون أن تفكر في معناه لأنها خففت من حدة كلامها علي الفور:
أقول لك هذا لأنني أحبك كثيرا.
قلت لها:
أعرف ذلك لكن قولي لي شيئا لو كنت مكاني ألا تفعلين مثلي.
قالت هي:
لا أفعل ذلك لو كان هذا ضد رغبتي والدي
تذكرت موقفها المتعنت الذي أجبرت فيه أبويها علي قبول زواجها قلت لها ضاحكا:
هل تستطيعين مواجهتي.
لكنها تحاشت كلامي بجدية لأنها تعرف تماما ما كنت أفكر فيه. قالت:
'لم أتزوج قبل حصولي علي موافقة والدي كان الأمر صعبا لكنني حصلت علي موافقتهما'.
قطعت النقاش ليس لأنني استطعت إقناعها بل لأنها كانت تريد الذهاب إلي المرحاض وكانت تشك في حالة المرحاض الصحية تحدثت مع قبطان المركب سائلا إياه عن مكان أفضل لقضاء حاجتها لكنه أفهمني أنه هو نفسه يستعمل المرحاض العام, أنهي حديثه معي كما لو كان انتهي من قراءة كونراد.
في البحر الجميع سواء.
وهكذا خضعت أمي لقانون الجميع عندما خرجت من المرحاض علي عكس ما كنت أتوقع كانت لا تكاد تكتم ضحكاتها قالت لي:
تصور ماذا سيقول أبوك لو عدت بمرض من أمراض الحياة التعسة.
بعد منتصف الليل حدث لنا تأخير لمدة ثلاث ساعات لأن أبواب الدفة علقت بمراوح المركب وفقد القبطان السيطرة علي الدفة غرست المركب مما دفع العديد من المسافرين إلي الهبوط لجر المركب من الشاطئ باستخدام حبال الأسرة المعلقة' الهاماكا' درجة الحرارة والأعمدة كانت غير محتملة لكن أمي تحاشت الأمر بغفوات سريعة من النعاس اللحظي المتقطع التي أصبحت شهيرة بها في العائلة والتي كانت تسمح لها بالراحة دون أن تغفل عن الحوار الدائر حولها عندما عادت المركب إلي سيرها المعتاد وتحركت نسمات الريح عادت أمي إلي وعيها الكامل. تنهدت:
علي أي حال يجب أن أحمل لأبيك إجابة علي الأقل.
قلت لها بالبراءة نفسها:
الأفضل له ألا يشغل نفسه بذلك سوف أذهب إليه في ديسمبر وأشرح له الأمر.
قالت هي:
لا زالت هناك عشرة أشهر.
قلت لها:
علي الأقل لا يمكن عمل أي شيء بالنسبة للجامعة
هل تعدني جديا بالذهاب.
أعدك بذلك.
لأول مرة يبدو في صوتها شيء من التشوق:
هل أستطيع أن أقول لأبيك إنك ستذهب.
أجبتها مقاطعا:
لا هذا لا.
كان واضحا أنها تبحث عن مخرج آخر لكنني لم أمنحها الفرصة.
قالت هي:
إذن يجب أن أقول له الحقيقة حتي لا يبدو الأمر خداعا.
قلت لها:
حسنا قولي له الحقيقة.
اتفقنا علي ذلك, من لا يعرفها يعتقد أن الأمر انتهي عند هذا الحد لكنني كنت أعرف أنها مجرد لحظات من الهدنة تلتقط فيها أنفاسها بعد قليل نامت بعمق هبت نسمة هواء خفيفة هزت الأعمدة ونشرت هواء معبقا برائحة الزهو, بعدها اعتدلت المركب وبدت كما لو كانت مركبا شراعيا.
لا يوجد شاطيء علي الطرف الآخر!
كنت دائما أعتقد أن تلك المذبحة كانت في مكان ما أمام محطة' اراكاتاكا' ومرات عديدة عندما كنت أرافق جدي لاستقبال القطار أستعيد في خيالي ذكرياتها المرعبة
في هذه الحلقة يتناول جابرييل ماركيز رحلة مع جده عبر نهر ثيناجا جراندي في مركب بخاري ويحكي عن مشادة جرت بين جده الكولونيل وأحد البحارة حيث تآمر بعض الركاب علي الجد لإلقائه في النهر لكن الجد تغلب عليهم بفكاهاته التي بقيت في ذاكرة ماركيز إلي ما يقرب من20 عاما عندما التقي بعمه استيبان كاريو بأحد المطاعم وقت أن كان ماركيز يمارس مهنة بيع الموسوعات ليعود بعدها إلي حواره مع أمه حول رغباته القديمة في ممارسة مهنة الكتابة ورفض الأب لهذه الرغبات.
كنا في نهر' ثيناجا جراندي' إنها أسطورة أخري من أساطير طفولتي سبحت فيه عدة مرات عندما كان يأخذني جدي الكولونيل' نيكولاس ريكاردو ماركيز ميخيا' من' اراكاتاكا' إلي' بارانكيو' لزيارة أبوي. قال لي مرة وهو يتحدث عن تقلبات أحوال مياهه:' لا يجب الخوف من نهر ثيناجا ولكن يجب احترامه' تبدو مياه النهر تبدو أحيانا كمياه بحيرة راكدة وفي أحيان أخري تبدو كمياه المحيط في فصل الأمطار يصبح تحت سيطرة عواصف الجبال وخلال الأشهر من ديسمبر إلي إبريل عندما تصبح الرياح قوية فإنها تهب عليه وتجعل من كل أمسية مغامرة جدتي لأمي' ترانكيلينا ايجواران' لم تكن تجرؤ علي عبوره إلا تحت ضغط إلحاح قضاء حاجة عاجلة وجاءها هذا الرعب من النهر بعد تلك الرحلة العاصفة التي اضطروا خلالها إلي الاختباء حتي الفجر في مدخل النهر.
لحسن الحظ فإنه في تلك الليلة خرجت عبر نوافذ القمرة لتنسم بعض الهواء قبل الفجر بقليل كانت أضواء قوارب الصيد الصغيرة تضيء وتنعكس علي سطح الماء كالنجوم كانت كثيرة لا يمكن حصرها والصيادون الذين يخفيهم الظلام يتحادثون كما لو كانوا في اجتماع عائلي, الأصوات لها رنين قوي يسبح مع نسمات الفجر ارتكزت بكوعي علي حافة النافذة محاولا تبين شكل الجبال في تلك اللحظة فاجأتني الذكريات الأولي.
في لحظة مثل هذه كنا نعبر نهر' ثيناجا جراندي' كان جدي قد تركني نائما وذهب إلي الكانتين لم أكن أعرف في أي ساعة كنا عندما استيقظت علي أصوات لأناس كثيرين تأتيني من خلال فتحات التهوية الصدئة وقرقعات حوائط صفيح القمرة الصدئة لم أكن قد بلغت الخامسة من عمري شعرت بفزع كبير لكن سرعان ما حل الهدوء واعتقدت أنني كنت في كابوس في الصباح كنا في نهاية نهر ثيناجا كان جدي يحلق ذقنه أمام المرآة المعلقة علي الجدار والباب مفتوح لا زلت أتذكره جيدا: لم يكن قد ارتدي قميصه بعد لكنه كان يرتدي علي ملابسه الداخلية حمالات طلقات الرصاص المطاطية العريضة ذات الخطوط الخضراء بينما يحلق ذقنه كان يتجاذب الحديث مع رجل آخر لا زلت أذكر ملامحه ويمكنني أن أتعرف عليه الآن من أول وهلة كان يشبه الحمل لا يمكن أن تخطيء العين هيئته علي ذراعه اليمني وشم لبحار وفي عنقه عدة سلاسل ذهبية ثقيلة وفي كلا رسغيه يرتدي أيضا أساور ذهبية كنت مرتديا ملابسي أحاول أن أضع قدمي في الحذاء عندما قال الرجل لجدي:
'لا تشك في هذا يا كولونيل ما أرادوه هو إلقاء حضرتك إلي الماء'.
ابتسم جدي دون أن يتخلي عن حلاقة ذقنه وبنغمة معروفة عنه رد عليه:
'من حسن حظهم أنهم لم يحاولوا فعل ذلك'.
عندها فقط فهمت ما حدث بالليل فشعرت بالرهبة من فكرة أن يقوم شخص ما بإلقاء جدي في نهر ثيناجا. أراه الآن بكل التفاصيل الدقيقة ويبدو أمامي مرفوعا علي الأعناق كما لو كان' سانشو بانثا' في خمارة وملقي علي جانب النهر لكن في لحظة حدوث الواقعة كانت قد انمحت من ذاكرتي بالكامل بعد عشرين سنة عادت تلك الذكريات فجأة إلي ذاكرتي بلا سبب عادت واضحة وكما حدثت وعندما كنت أتناول الغداء مع عمي' استيبان كاريو' في أحد مطاعم' ريواتشا' في تلك الفترة التي كنت أبيع فيها كتب الموسوعات والوصفات الطبية قاطعا قري منطقة' جواخيرا' وكان الجد وقتها قد مات قصصت الواقعة علي عمي استيبان باعتبارها طرفة لكنه انتفض في قفزة واحدة وكان غاضبا لأنني لم أقص تلك الواقعة عند حدوثها وكان متشوقا إلي التعرف علي شخصية ذلك الرجل حتي يمكنه أن يكشف لنا عن شخصية من أرادوا إغراق جدي ولم يحاول أن يفهم عدم مقاومة جدي لهؤلاء خاصة أنه كان يجيد التصويب وإطلاق الرصاص وكان لا يترك سلاحه أبدا ينام والمسدس تحت وسادته وأنه خلال حربين أهليتين كان يقاتل دائما في خطوط النار الأولي وفي زمن السلم قتل شخصا دفاعا عن نفسه قال لي عمي استيبان إن الوقت لم يفت بعد بالنسبة له ولأشقائه الكثيرين للانتقام من المعتدين علي الجد. إنه قانون' جواخيرا' علي أي فرد من أسرة المعتدي أن يتحمل وزر ما فعله أقرباؤه وأنه علي جميع رجال أسرة المعتدي أن يتحملوا وزر ما حدث كان عمي استيبان مصرا علي الانتقام أخرج مسدسه من تحت الوسادة ووضعه علي المائدة أمامي لحين الانتهاء من التحقيق معي منذ تلك اللحظة عندما كنا نلتقي خلال رحلاتنا في منطقة الكاريبي يعود لتعنيفي لعدم تذكري لتلك الواقعة وفي إحدي الليالي جاء في زيارة مفاجأة في مكتبي بالصحيفة التي كنت اعمل فيها في ذلك الوقت الذي كنت أحاول فيه أن أجمع معلومات أولية عن أسرتي لكتابة روايتي الأولي وعرض علي أن نقوم معا ببحث دقيق عن ملابسات واقعة الاعتداء علي جدي. إن عمي لم يتخل عن فكرة الانتقام أبدا وفي آخر مرة رأيته فيها في' كارتاخينا دي أندياس' وكان قد بلغ أرذل العمر وقلبه المريض ودعني بابتسامة حزينة قائلا:
'لا أفهم كيف استطعت أن تكون كاتبا بتلك الذاكرة السيئة'.
ذكري تلك الواقعة التي لم تتضح أبدا فاجأتني في ذلك الفجر الذي كنت أتجه فيه مع أمي لبيع البيت. وبينما كنت أتأمل الجليد علي قمم الجبال التي تلونت بالأزرق مع أشعة الشمس الأولي منذ تلك اللحظة وحتي اليوم أصبحت أسيرا للذكريات.
التأخير في تلك الليلة أتاح لي أن أري في وضوح النهار تلك المساحة الرملية التي تفصل البحر عن نهر ثيناجا حيث كانت تبدو علي مرأي البصر بيوت الصيادين التي تنتشر عليها شباك الصيد المعرضة للشمس علي هذا الجزء من الشاطئ والأطفال يلعبون الكرة المصنوعة من الخرق كان مشهدا مدهشا أن أري العديد من الصيادين يسيرون في الشوارع بأذرع مقطوعة بترها الإهمال في سرعة إلقاء الديناميت وعندما مرت المركب كان الأطفال يلقون بأنفسهم في النهر ويغوصون لالتقاط القطع المعدنية التي يلقيها إليهم المسافرون. كانت الساعة قد تعدت الثامنة عندما ألقت المركب بالمسافرين بالقرب من بحيرة راكدة لا تبعد كثيرا عن قرية' ثيناجا'. استقبلنا عدد كبير من الحمالين بأربطة ملفوفة علي سيقانهم وحملونا علي أكتافهم حتي رصيف الميناء.
بينما كنا نتناول طعام الإفطار ببطء علي موائد الميناء التي يقدمون عليها الخبز الممزوج بالموز الأخضر المقلي استغلت أمي الفرصة لتبدأ شن حملة جديدة في حربها الشخصية ضدي. كانت تجلس إلي جواري ودون أن ترفع بصرها نحوي عادت لتسألني فجأة:
'إذن قلي بكل وضوح ماذا أقول لأبيك'.
حاولت أن أكسب بعض الوقت قبل أن أجيب علي سؤالها:'عن أي شيء'.
قالت بشيء من العصبية:
'عن الشيء الوحيد الذي يهمه دراستك'.
كان حسن حظي ان شخصا أراد التدخل في الحوار خلال تعجلها للتعرف علي أسبابي الخاصة هذا التدخل لم يصبني بالخرس بل فاجأها هي نفسها تلك التي كانت تحاول دائما أن تخفي مشاعرها الخاصة. قلت:
'أريد أن أصبح كاتبا'.
قال الرجل بجدية:
'كاتب جيد يمكنه أن يكسب أموالا كثيرة بالطبع إذا عمل لحساب الحكومة'.
لا أعرف إن كانت أمي حاولت إنهاء الحديث تجنبا للخصوصية أم خوفا من كلام الرجل المتطفل ولكنهما انتهيا معا إلي الحديث عن ضياع جيلي وعدم معرفته لما يريد وانتهيا إلي التحسر علي الذكريات القديمة ثم انتهيا إلي التعرف علي أسماء لأصدقاء مشتركين وإذا بهما يكتشفان انهما أقارب من ناحية أسرة' كوتيس واجواران'. وكان هذا يحدث تقريبا بمعدل اثنين من كل ثلاثة أشخاص نلاقيهم في الشاطئ الكاريبي وكانت أمي تفرح لهذه المناسبة كما لو كان الأمر مناسبة عائلية.
ذهبنا إلي محطة القطارات مستقلين عربة يجرها حصان واحد ربما كان الحصان الأخير من نوعية خاصة بدأت تنقرض من العالم كله كانت أمي غارقة في التفكير تتأمل السهل المحترق من تأثير المساحات الملحية التي تمتد من الميناء وتنتهي في الأفق كان المكان بالنسبة لي تاريخيا: في يوم من الأيام عندما كنت في الثالثة أو الرابعة من عمري سحبني جدي من يدي عبر ذلك السهل الحارق سيرا علي الأقدام بخطوات سريعة ودون أن يخبرني إلي أي مكان نحن ذاهبون وفجأة وجدنا أنفسنا أمام أفق من الماء الأخضر المخطط بالزبد الأبيض وكانت تعوم علي سطحه أعداد لا حصر لها من الدجاج الغارق. قال لي:
'إنه البحر'.
وأنا في حالة من الغثيان سألته عن ما يوجد علي الطرف الآخر من الشاطئ ودون ان يشك لحظة أجابني:
'لا يوجد شاطئ علي الطرف الآخر'.
اليوم بعد كل ما شاهدته من محيطات يمينا ويسارا لا زلت اعتقد أن إجابته كانت إحدي اكبر الإجابات التي كان يقدمها لي عن تساؤلاتي.
لا أذكر متي سمعت الحديث عن البحر لأول مرة ولا أذكر مشهده الذي دخل ذاكرتي من خلال حديث الكبار عنه وإن كان جدي حاول أن يريني إياه من خلال قاموسه القديم المهتريء لكنه لم يعثر عليه وعندما استعاد توازنه أمام سؤال حاول أن يشرحه لي من خلال تعبيرات تستحق التسجيل فقال:
'هناك كلمات لا يحتويها القاموس لأن الناس جميعا تعرف معناها'.
لهذا السبب طلب أن يعيروه من مدرسة' سانتا مارتا' قاموسا موسوعيا بصور ملونة مرسوم عليها المحيط الأطلنطي في كرة أرضية يحملها إنسان علي كتفيه. وكان هذا المشهد أول القواميس العديدة التي حصلت عليها في حياتي وقرأته كما لو كان رواية مقررة علي الفصول الابتدائية في المدرسة تابعت القراءة طبقا للفهرس الأبجدي ودون أن أفهم منه شيئا لكن هناك وجد جدي المعني الدقيق لكلمة' بحر' التي لم يستطع الحصول عليها في القاموس الآخر:
'مساحة ضخمة من الماء المالح التي تغطي جزءا كبيرا من الكرة الأرضية.
إزاء هذه المعاني غير المفهومة بالنسبة لي ما كان يمكنني أن أفهم معناها لو لم يأخذني جدي ويضعه أمام عيني لم تكن أي صورة في ذهني تساوي هذا المشهد المرعب لم يكن بالاستطاعة السير علي شاطئه المليء بالبقايا المتعفنة وقطع القواقع. كان مشهدا مقززا.
ربما كانت أمي تفكر في المشهد نفسه وهي تري نهر' ثيناجا' ما إن رأته من خلال نافذة العربة حتي تنهدت:
'لا يوجد بحر مثل بحر ريواتشا'.
في هذه الفرصة قصصت عليها ذكرياتي عن الدجاجات الغارقة وكيف ان الكبار كانوا يعتقدون أنها لم تكن سوي تخيلاتي الطفولية تابعت هي بعد ذلك المشاهد المتتالية في الطريق مكانا وكنت أعرف ما تفكر فيه عن كل مكان من خلال فترات الصمت المتتالية مررنا أمام حي' توليرانثيا' في الطريق المقابل لخطوط السكك الحديدية ببيوته الصغيرة الملونة ذات الأسقف الصدئة وببغاواتها التي تنادي علي الزبائن باللغة البرتغالية من علي حلقاتها المعلقة في الأسقف مررنا أمام موارد تغذية القطارات بالمياه بخزاناتها المستديرة التي تنتهز الطيور المهاجرة والنوارس التائهة الفرصة لتنام عليها لالتقاط أنفاسها. مررنا أمام البيت الكئيب الذي اغتالوا فيه' مارتينا فونسيكا' ومررنا حول المدينة دون أن ندخلها لكننا لاحظنا الشوارع الكبيرة الخالية من المارة والبيوت القديمة التي فقدت بريقها كانت بيوتا من تلك ذات النوافذ العالية التي كانت تنطلق منها نغمات التدريب علي آلة البيانو منذ مطلع الفجر بلا انقطاع وفجأة أشارت أمي بإصبعها وقالت:
'انظر هناك حيث كان ينتهي العالم'.
تابعت أنا إصبعها حيث تشير رأيت محطة القطارات: كانت مكونة من مبني من الخشب الكالح وسقف زنكي مموج وشرفات مستديرة في مواجهة ميدان صغير لا يستطيع ان يحتوي علي أكثر من مائتي شخص هناك حيث أخبرتني أمي قتل الجيش عام1928 عددا غير معلوم من عمال الموز.
فاجأتني المعلومات التي قدمتها لي أمي لأنني كنت دائما أعتقد أن تلك المذبحة كانت في مكان ما أمام محطة' اراكاتاكا' ومرات عديدة عندما كنت أرافق جدي لاستقبال القطار أستعيد في خيالي ذكرياتها المرعبة: عسكري يقرأ القرار الذي يعلن ان العمال المضربين ينتمون إلي الجماعات الإرهابية ويمنح العسكري آلاف الرجال والنساء والأطفال الذين كانوا ينتظرون تحت الشمس الحارقة مهلة من خمس دقائق لإخلاء الميدان ثم أسمع أمر إطلاق النار واسمع طلقات الرصاص ذات الأزيز والجمع يسيطر عليه الرعب يخلي الميدان شبرا شبرا بينما المدافع الرشاشة لا تتوقف عن إطلاق النار اعتقد أن جدي كان علي علم بتخيلاتي المزيفة فقد سألته مرة في محطة' اراكاتاكا' أين كانوا يضعون المدافع الرشاشة كان هو يقرأ رسالة تلقاها ودون أن ينظر إلي أشار إلي سقف بعض عربات القطار وقال:
هناك
ثم واصل بعدها قراءة الرسالة ما أن انتهي من قراءتها حتي قام بتمزيقها قطعا صغيرة ليتأكد أن زوجته لن تقرأها ثم سألني مندهشا:
'ما الذي كنت تريد أن تعرفه عن المدافع الرشاشة'.
قدرتي علي تصوير بعض الأشياء كما لو كانت أشياء عشتها بنفسي كانت في طفولتي كبيرة جدا وهذا سبب لي الكثير من اختلاط الذاكرة لكنها لم تكن أبدا مثل تلك التي كنت أعتقد فيها أن المذبحة وقعت في محطة' أراكاتاكا' مع ذلك فان تأكيد أمي لا يقبل الجدل خاصة بعد أن سألتها عن عدد القتلي فقد أجابتني بالطريقة نفسها:
سبعة
ثم نبهتني علي الفور ألا أخذ الرقم علي انه مؤكد لأنه يوم وقوع المذبحة سمعت هي أن عددهم يتعدي المائة ثم بدأ العدد بعدها يتناقص شيئا فشيئا إلي اللاشيء ولم يعد من ذكرياتي أي شيء قابل للحقيقة سوي أن الجنود أطلقوا النار من علي سطح القطار.
رؤية أمي للواقعة كانت تتضمن أعدادا قليلة والمشهد كان فقيرا مقارنة بالمشهد البطولي الذي تخيلته وهذا أشعرني بنوع من خيبة الأمل بعدها تحدثت مع شهود أحياء من تلك الواقعة وعدت إلي القصاصات الصحافية والوثائق الرسمية فتأكدت أن الحقيقة كانت مخالفة تماما لكل الروايات لكن رواية أمي كانت أقربها إلي الواقع. البعض يقول إنه لم يكن هناك أي قتيل والذين يعارضون الحكومة كانوا يؤكدون أن القتلي يتعدون المائة وأنهم شاهدوهم بأنفسهم ينزفون في الميدان وأنهم حملوهم في القطار لإلقاء جثثهم في البحر كما لو كانوا موزا متعفنا. وهكذا ضاعت الحقيقة إلي الأبد بين الروايات المختلفة ما بين النقيضين.
ذكرياتي الكاذبة ظلت تلح علي حتي إنني أشرت إلي المذبحة في إحدي رواياتي بكل تفاصيلها الدقيقة والرعب الذي أعتقد أنه سيطر علي أراكاتاكا وذلك لأنني لم أستطع أن أضعها في أي من الروايات المختلفة التي توصلت إليها بعد ذلك وهكذا رفعت عدد القتلي إلي ثلاثة آلاف بدلا من سبعة لأحافظ علي قيمة الأرقام الدرامية, الحياة الواقعية لم تتركني طويلا لتقدم لي اعترافها بعبقريتي: منذ قليل في حفل إحياء الذكري السنوية للمذبحة طلب المتحدث الوقوف دقيقة حدادا علي أرواح الثلاثة آلاف قتيل المجهولين من ضحايا المذبحة الذي قتلتهم قوات الأمن*
يتبع
منقول من مذكرات قبرائيل غارسيا ماركيز
أخوتي الاحبة
الكاتب العالمي جابريل جارسيا ماركيز كتب منذ مدة ليست بالطويلة مذكراته و التي تحمل اسم " أن تعيش لتحكي" و قد تم ترجمة هذه المذكرات للكثير من اللغات و لكنها لم تصدر بعد باللغة العربية، و لكن الدكتور طلعت شاهين يقوم بالوقت الراهن بترجمتها.
البداية :
الطريقة الوحيدة للوصول من' بارانكيو' إلي' اراكاتاكا' هي استخدام قارب بخاري قديم من تلك القوارب التي كانت تسير بقوة دفع تجديف العبيد في زمن الاستعمار الأسباني يسير في تلك المياه العكرة إلي أن يتم الوصول إلي تلك القرية الغريبة المسماة' ثيناجواس لم يتوقع أحد أن يقوم الكاتب الكولومبي الحاصل علي جائزة نوبل للآداب عام1982 بكتابة مذكرات شخصية لأنه لم يكن معروفا عنه أنه يميل إلي ذلك النوع من الكتابة خاصة أنه كان يعلن دائما أن رواياته هي إعادة لكتابة ذكرياته خلال الطفولة التي عاشها في بيت جده' الكولونيل' في قرية' اراكاتاكا' التي تقع علي نهر' ثيناجا' في قلب مزارع الموز الشهيرة التي كانت تسيطر الشركات الأمريكية من خلالها علي مقدرات البلاد ومن ثم فإنه لا مجال لكتابة مذكرات شخصية لأن تلك المذكرات تتضمنها رواياته.
لكن عندما وقف الكاتب أمام الجمهور في مهرجان كبير في المكسيك قبل ثلاث سنوات ليقرأ صفحات كتبها عن حياته الخاصة اكتشف أنها عقدت ألسنة الواقفين والجالسين وكانت الصفحات التي قرأها' جابرييل جارثيا ماركيز' عبارة عن ذكرياته وقت أن كتب روايته التاريخية' الجنرال في مصيدته' وكيف أن تلك الرواية وليدة لمذكراته التي قرأها الكاتب لكنه أعلن أن هذه الكتابة التي يعتبرها البعض مذكرات شخصية ليست سوي بعض الكتابات التي قرر أن يسجل فيها أشياء خاصة بحياته حسب ترتيبها التاريخي وهذا الفصل الذي بدأ به جابرييل جارثيا ماركيز مذكراته يقص فيه الكاتب جزءا من حياته عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره عندما لم يكن يحلم سوي بأن يكون كاتبا.
واليوم نقدم للقارئ العربي ترجمة لهذا الفصل الذي كان أساس كتابة الجزء الأول من تلك المذكرات التي صدرت هذا الأسبوع في طبعة من مليون نسخة تم تقديمها في كل من برشلونة وبوجوتا وبوينس ايريس والمكسيك في وقت واحد لتكون أضخم طبعة لكتاب واحد في التاريخ ولا يعرف أحد ولا الكاتب نفسه عدد الأجزاء التي ستصدر لاحقا لاستكمال هذه المذكرات, ولكن دار النشر أعلنت أن لديها جزءين آخرين تعدهما للنشر في وقت لاحق وربما يصل عدد أجزاء هذه المذكرات إلي أكثر من خمسة أجزاء وهناك من يتوقع أن يصل عدد أجزاء هذه المذكرات إلي ثمانية أو تسعة نظرا لشخصية الكاتب التي عاشت أحداثا جساما نظرا لامتهانة مهنة الصحافة قبل وبعد حصوله علي جائزة نوبل للآداب عام1982 وتعدد مواهبه التي تنقلت به ما بين الريبورتاج الصحفي والقصة القصيرة والرواية والسيناريو السينمائي.
طلبت مني أمي أن أرافقها لبيع البيت, كانت قد وصلت هذا الصباح من تلك القرية البعيدة التي تعيش فيها الأسرة, ولم تكن تعرف أين يمكنها أن تعثر علي وبسؤالها بعض الأصدقاء والمعارف هنا وهناك أشاروا عليها بالبحث عني في المكتبة العامة أو في المقاهي القريبة من المكتبة, تلك المقاهي التي أذهب إليها يوميا في الواحدة والسادسة مساء للتسلي بالحديث مع الأصدقاء من الكتاب ومن أخبرها عن مكاني حذرها:' كوني حذرة في تعاملك معهم إنهم مجانين'.
وصلت أمي في الثانية عشرة تماما فتحت طريقها مباشرة بين أكوام الكتب المعروضة وهي تسير بمشيتها الخفيفة وقفت أمامي مباشرة ونظرت في عيني بابتسامتها الخبيثة المعروفة عنها منذ أيامها الطيبة وقبل أن استعيد توازني قالت لي: أنا أمك
شيء ما تغير فيها لم يجعلني أتعرف عليها منذ الوهلة الأولي كانت في الخامسة والأربعين من عمرها ولم نكن قد التقينا منذ أربع سنوات لو حسبنا المواليد التي ألقت بأطفالها الأحد عشر إلي العالم إضافة إلي عشر سنوات من الانتظار ومثلها لتربية أولادها, فإننا نجد أن الشيخوخة أصابتها قبل موعدها كانت عيناها الواسعتان تحملقان في من خلف عويناتها مزدوجة الزجاج وكانت ترتدي السواد الكامل الجاد حزنا علي موت أمها الذي وقع قبل قليل, لكنها كانت لا تزال تحافظ علي ذلك الجمال الروماني الذي بقي كاملا في صورة زفافها وتحول الآن إلي نوع من الجمال الأرستقراطي. قبل كل شيء وقبل أن تعانقني قالت لي بطريقتها الرسمية المعروفة عنها دائما:
جئت أطلب منك جميلا أن ترافقني لبيع البيت
لم تقل لي أي بيت ولا أين يوجد هذا البيت لأنه بالنسبة لنا لم يكن لنا سوي بيت واحد في هذا العالم: بيت الأجداد القديم في' اراكاتاكا' الذي كان من حظي أن أولد فيه والذي خرجت منه بلا عودة قبل أن أكمل الثامنة من عمري في تلك اللحظة التي جاءت فيها أمي كنت تركت الدراسة في كلية الحقوق بعد ستة أشهر من بدء الدراسة وقررت التفرغ تماما للقراءة والكتابة وأحفظ عن ظهر قلب أشعار العصر الذهبي الأسباني. قرأت جميع الكتب المؤلفة والمترجمة عن تعلم فن كتابة الرواية ونشرت أربع قصص في ملاحق الصحف أثارت تشجيع أصدقائي ولفتت انتباه بعض النقاد كنت علي وشك أن أكمل الثالثة والعشرين من عمري في الشهر التالي, أصبحت هاربا من أداء الخدمة العسكرية أدخن ستين سيجارة في اليوم بلا توقف أوزع أوقات فراغي ما بين' برانكيو' و'كارتاخينا دي أندياس' علي شاطئ الكاريبي في كولومبيا كنت أحاول أن أعيش بكل ما أستطيع من خلال القليل الذي دفعوه لي ثمنا لما كنت أكتبه من أخبار في الصحف والتي لم تكن تعني شيئا كنت أحاول أن أنام علي أفضل ما أستطيع في أي مكان يفاجئني فيه الليل أفعل ذلك ليس حبا في المكان بقدر ما هو قلة ذات اليد كنت أسبق' المودة' بعشرين عاما: شارب كث متوحش وشعر منفوش وبنطلون كاوبوي وقمصان مشجرة بزهور كبيرة ملونة. وصندل يشبه صنادل الحجاج الفقراء. سمعت بعض الأصدقاء مرة يتحدثون عني في إحدي صالات السينما المعتمة دون أن يعرفوا أنني كنت بالقرب منهم قالت إحدي الصديقات لرفيقها:' جابيتو المسكين حالته ميئوس منها'. لذلك عندما طلبت مني أمي أن أرافقها لبيع البيت لم أمانع في ذلك. أخبرتني أنها لا تملك مالا كافيا وحفاظا علي الكرامة أخبرتها أنني سأتولي مصروفاتي. لم يكن ممكنا الحصول علي المال المطلوب من الصحيفة التي كنت أعمل فيها كانوا يدفعون لي ثلاث بيزات عن الخبر اليومي وأربعة عن كتابة الافتتاحية عندما كان يغيب محررها لكنها لم تكن كافية لأعيش منها حاولت الحصول علي قرض لكن المدير ذكرني بأنني مدين بما يزيد علي ثمن مائة خبر يومي. يبدو أنني طلبت أكثر مما يجب لذلك لم يكن أي من أصدقائي قادرا علي تلبية طلبي. عند خروجي من مقهي' كولومبيا' الواقعة إلي جوار المكتبة التقيت بالسيد' رامون فينيس' الأستاذ وبائع الكتب القطالوني العجوز وطلبت منه عشرة بيزات علي سبيل الاقتراض لكنه لم يكن يملك سوي ستة فقط.
لا أمي ولا أنا كان يمكننا تصور أن تلك الرحلة القصيرة لمدة يومين يمكن أن تكون رحلة حاسمة في حياتي وحتي أطول حياة يمكن أن أعيشها تجعلني أستطيع أن أسيطر علي ذلك التأثير, الآن وبعد أن بلغت السبعين أعرف أن تلك الرحلة كانت القرار الأهم من كل القرارات التي اتخذتها طوال حياتي ككاتب أي في حياتي كلها.
لم أكن قد زرت اراكاتاكا منذ أربعة عشر عاما منذ أن مات جدي لأمي وأخذوني لأعيش مع والدي في بارانكيا خلال مراهقتي كانت ذاكرتي أكثر وعيا بالمستقبل منه بالماضي ذلك عند هذه الزيارة لم تكن ذكرياتي في القرية قد تمثلتها الذاكرة بعد, كانت الذاكرة تعي القرية كما كانت: مكان طيب للحياة فيه حيث كل الناس تعرف كل الناس, قريبة من شاطئ نهر ذي مياه هادئة تهبط من مهد من الحجارة المنحوتة بيضاء وضخمة وتشبه بيضا يعود إلي فترة ما قبل التاريخ. في لحظة غياب الشمس خاصة في شهر سبتمبر وبعد لحظات المطر الذي يحول الهواء إلي قطع من الماء كانت جبال' سييرا نيفادا دي سانتا مارتا' تبدو كما لو كانت تقترب بصدرها الأبيض من مزارع الموز الموجودة علي الشاطئ المقابل. من هناك كان يمكن رؤية الهنود الحمر يسيرون في طوابير كالنمل الزاحف علي جوانب الجبال وهم يحملون علي ظهورهم أحمال الزنجبيل ويمضغون كرات الكوكا ليوقفوا مسيرة الحياة. كنا نحن الأطفال نحلم بصنع كرات من الثلوج الأبدية ونلعب لعبة الحرب علي أرض الشوارع الحارقة, فقد كانت الحرارة ثقيلة لا تحتمل خاصة في أوقات القيلولة, الكبار يشتكون من الحرارة كما لو لم تكن مفاجأة كل يوم فقط. منذ مولدي وأنا أسمع بلا انقطاع أن خطوط السكك الحديدية ومعسكرات شركة' اتحاد الفاكهة' تم إقامتها ليلا لأنه كان من المستحيل الإمساك بالعدد اليدوية الساخنة تحت الشمس.
الطريقة الوحيدة للوصول من' بارانكيو' إلي' اراكاتاكا' هي استخدام قارب بخاري قديم من تلك القوارب التي كانت تسير بقوة دفع تجديف العبيد في زمن الاستعمار الأسباني يسير في تلك المياه العكرة إلي أن يتم الوصول إلي تلك القرية الغريبة المسماة' ثيناجواس'. من هناك يمكن استخدام القطار العادي الذي كان يوما من أفضل ما يوجد في البلاد يسير المسافة المتبقية عبر حقول الموز الشاسعة مسافة تتخللها وقفات في العديد من القري المتربة الحارقة أو المحطات المنعزلة. تلك كانت الرحلة التي بدأنا أمي وأنا في السابعة من مساء شهر فبراير عام1950- كان يوم أحد الكرنفال- السماء تمطر ثلجا علي غير العادة ولم نكن نملك سوي اثنين وثلاثين بيزو احتفظنا بها تحسبا للعودة إذا لم يتم بيع البيت طبقا لما خططناه له.
كانت الرياح قوية في تلك الليلة مما جعلني أبذل مجهودا كبيرا لإقناع أمي بالصعود إلي القارب البخاري, كانت محقة في رفضها, المركب عبارة عن هياكل مشابهة لتلك المعروفة في' نيو أورليانز' لكنها تعمل بموتورات جاز تهز أجساد الركاب بشكل عنيف مكونة من صالون صغير بخطاطيف لتعليق أسرة' الهاماكا' علي مستويات مختلفة إضافة إلي كراسي من الخشب علي الركاب أن يحاولوا الجلوس عليها كيفما اتفق إلي جوار حاجياتهم من البضائع وأقفاص الدجاج وحتي الخنازير الحية. هناك عدة قمرات بسريرين من تلك الأسرة التي تشبه أسرة الجنود في المعسكرات تشغل هذه القمرات بشكل شبه دائم' عاهرات' من أسفل الدرك في تلك المهنة يقدمن خدماتهن السريعة خلال الرحلة. ولأننا لم نجد قمرة خالية ولم تكن معنا أسرة متنقلة' هاماكا' استولينا عنوة علي كرسيين من الكراسي الحديدية الموجودة في الممر الرئيسي وقررنا تمضية الليلة هناك.
كما كنت أتوقع هاجمت العاصفة المركب خلال إبحارها في مياه نهر' المجادلينا' الذي كانت مياهه في حركتها تشبه مياه المحيط رغم ضيق مجراه, اشتريت في الميناء مؤنتي من أرخص أنواع السجائر المصنوعة من التبغ الأسود الملفوف في ورق جاف مكرمش وبدأت في التدخين علي الفور علي طريقتي في تلك الأيام, إشعال السيجارة من بقايا السيجارة السابقة أثناء انهماكي في قراءة ضوء أغسطس لوليم فوكنر ذلك الكتاب الذي كان أقرب الكتب إلي قلبي أمسكت أمي بمسبحتها وبدأت صلاتها وكأنها تشد إلي يديها طائرة معلقة في الهواء وكعادتها لم تطلب لنفسها شيئا, كل أمنياتها طول العمر والصحة والعافية لأبنائها اليتامي الأحد عشر يبدو أن صلاتها وصلت إلي المكان الذي كانت تتوجه إليه, فالمطر العنيف خفف من حدته عندما تعمقنا في مجري النهر وهب نسيم خفيف كان كافيا لإزاحة الذباب. ثم قامت بإخفاء المسبحة وبقيت لفترة طويلة تتأمل الصمت وعجيج الحياة التي تجري من حولنا.
ولدت أمي في بيت متواضع وشبت علي الحياة المرفهة لشركة الموز وهو ما أتاح لها تعليما رفيعا في مدرسة خاصة بأبناء الأثرياء في' سانتا مارتا' وكانت في إجازات أعياد الميلاد تمارس فن التطريز مع صديقاتها وتعزف الأكورديون في الحفلات الخيرية وكانت تذهب برفقة عمة لها إلي حفلات الرقص التي كانت تقيمها الأرستقراطية المعروفة في ذلك الوقت لكن لا أحد كان يعرف لها رفيقا حتي زواجها الفجائي من عامل التلغراف ضد رغبة والديها, من فضائلها المعروفة حبها للفكاهة وصحتها الحديدية التي لم تستطع الأوضاع السيئة للحياة أن تنال منها لكن الأكثر إدهاشا محاولتها إخفاء شخصيتها القوية بشكل يثير الإعجاب. إنها مجموعة من التراكيب المكتملة هذا جعلها تفرض علي من حولها سلطة أمومية استطاعت أن تفرضها حتي أبعد الأقرباء منها في العائلة كانت سلطتها تبدو كتركيب كوكبي تديره من مطبخها الخاص بصوت خفيض حاد لا يضيع في غليان زهور المريمية.
مشاهدة تقبلها لمتاعب لتلك الرحلة المفجعة تجعلني أتساءل كيف استطاعت الدخول بسرعة في بؤس الفقر والظلم ولم يكن هناك افضل من تلك الليلة لامتحان قدرتها العجيبة. ما بين الذباب القاتل والحر الثقيل والمثير للغثيان بسبب تلك المياه الراكدة التي تقلبها المركب في طريقها, حركة المسافرين القلقين الذين لم يعجبهم حال الرحلة كما لو كان كل هذا معدا بشكل مسبق لامتحان قدراتها, كانت أمي تحتمل كل هذا ساكنة في كرسيها فيما كانت فتيات الليل تمارسن عملهن في قمراتهن القريبة, إحداهن خرجت ودخلت عدة مرات من قمرتها الملتصقة بكرسي أمي وفي كل مرة تتأبط ذراع رجل مختلف. اعتقدت أنها لم تلاحظ هذا لكنها في المرة الرابعة أو الخامسة التي خرجت ودخلت فيها الفتاة خلال ساعة واحدة تابعتها أمي بنظرة أسف حتي نهاية الممر ثم تنهدت:
مسكينات هؤلاء الفتيات ما يفعلنه لمواجهة الحياة ألعن من العمل نفسه.
ظلت هكذا حتي حلول منتصف الليل عندما تعبت من متابعة القراءة بسبب اهتزازات المركب التي لا تحتمل وأضواء الممر الشاحبة, جلست إلي جوارها أدخن محاولا عبور الرمال المتحركة لمقاطعة' يوكناباتوافا'. كنت قد هربت من الجامعة قبل عام مضي في محاولة لممارسة مهنة الصحافة والأدب دون أن أكون في حاجة إلي دراستهما شجعني علي هذا جملة لبرنارد شو تقول:' منذ صغري توقفت عن الذهاب إلي المدرسة'. لم أكن في حاجة إلي مناقشة هذا مع أي شخص لأنني كنت أشعر أنني غير قادر علي إقناع الآخرين وأسبابي لن تكون مفهومة من أي شخص آخر غيري.
محاولة إقناع والدي بقبول مثل هذا الجنون بعد كل الآمال التي وضعوها في والأموال التي أنفقوها كان مجرد تضييع للوقت خاصة أبي الذي كان علي استعداد للتسامح معي في أي شيء إلا أن لا أعلق علي الحائط أي شهادة أكاديمية لم يستطع هو شخصيا الحصول عليها. العلاقات بيننا انقطعت تماما. بعد مرور حوالي سنة حاولت أن أزوره لأشرح له أسبابي لكن أمي عندما ظهرت من جديد طلبت مني أن أرافقها لبيع البيت. مع ذلك لم تحاول أن تفتح الموضوع معي حتي حلول منتصف الليل عندما شعرت بشيء غير طبيعي يؤكد أنها وجدت الطريق إلي الحديث في السبب الرئيسي لزيارتها لي وبدأت باكتشافها للطريقة ورنة الصوت والكلمات الموزونة المناسبة التي نضجت في غفواتها الوحيدة قبل أن تبدأ الرحلة بفترة طويلة.قالت لي:
أبوك حزين جدا.
حلت لحظة مواجهة الجحيم إنها تبدأ كالمعتاد في اللحظة غير المتوقعة بصوتها الواثق الذي لا يهتز في مواجهة أي شيء وسألتها فقط حتي يكتمل الطقس لأنني كنت أعرف الإجابة مسبقا:
لم كل هذا.
لأنك تركت الدراسة.
قلت لها:
لم أتركها فقط غيرت اتجاه الدراسة.
فكرة الدخول في حوار عميق حول الموضوع زادتها حماسة فقالت:
أبوك يقول إن الأمر سيان.
قلت لها:
هو أيضا ترك الدراسة ليعزف علي الكمان.
ردت هي بحيوية:
'الأمر مختلف كان يعزف الكمان فقط في الاحتفالات والأعياد وإذا كان قد ترك الدراسة ذلك لأنه لم يكن يملك شيئا لكنه تعلم التلغراف في أقل من شهر كانت في ذلك الوقت مهنة ممتازة خاصة في' اراكاتاكا''.
كذبت عليها:
أنا أعيش من الكتابة في الصحف.
قالت هي:
'أنت تقول هذا لتنكد علي لكن سوء أحوالك يبدو واضحا عندما التقيتك في المكتبة لم أتعرف عليك'.
قلت لها:
أنا أيضا لم أتعرف عليك.
قالت هي:
لكن ليس لنفس السبب اعتقدت أنك شحاذ.
نظرت إلي الصندل القديم وأضافت:
وبلا جوارب.
قلت:
'أكثر راحة قميصان وقطعتان من الملابس الداخلية إحداهما ارتديها والأخري تجف ماذا احتاج أكثر من ذلك'.
قالت هي:
شيء من الكرامة.
لكن يبدو أنها قالت ذلك دون أن تفكر في معناه لأنها خففت من حدة كلامها علي الفور:
أقول لك هذا لأنني أحبك كثيرا.
قلت لها:
أعرف ذلك لكن قولي لي شيئا لو كنت مكاني ألا تفعلين مثلي.
قالت هي:
لا أفعل ذلك لو كان هذا ضد رغبتي والدي
تذكرت موقفها المتعنت الذي أجبرت فيه أبويها علي قبول زواجها قلت لها ضاحكا:
هل تستطيعين مواجهتي.
لكنها تحاشت كلامي بجدية لأنها تعرف تماما ما كنت أفكر فيه. قالت:
'لم أتزوج قبل حصولي علي موافقة والدي كان الأمر صعبا لكنني حصلت علي موافقتهما'.
قطعت النقاش ليس لأنني استطعت إقناعها بل لأنها كانت تريد الذهاب إلي المرحاض وكانت تشك في حالة المرحاض الصحية تحدثت مع قبطان المركب سائلا إياه عن مكان أفضل لقضاء حاجتها لكنه أفهمني أنه هو نفسه يستعمل المرحاض العام, أنهي حديثه معي كما لو كان انتهي من قراءة كونراد.
في البحر الجميع سواء.
وهكذا خضعت أمي لقانون الجميع عندما خرجت من المرحاض علي عكس ما كنت أتوقع كانت لا تكاد تكتم ضحكاتها قالت لي:
تصور ماذا سيقول أبوك لو عدت بمرض من أمراض الحياة التعسة.
بعد منتصف الليل حدث لنا تأخير لمدة ثلاث ساعات لأن أبواب الدفة علقت بمراوح المركب وفقد القبطان السيطرة علي الدفة غرست المركب مما دفع العديد من المسافرين إلي الهبوط لجر المركب من الشاطئ باستخدام حبال الأسرة المعلقة' الهاماكا' درجة الحرارة والأعمدة كانت غير محتملة لكن أمي تحاشت الأمر بغفوات سريعة من النعاس اللحظي المتقطع التي أصبحت شهيرة بها في العائلة والتي كانت تسمح لها بالراحة دون أن تغفل عن الحوار الدائر حولها عندما عادت المركب إلي سيرها المعتاد وتحركت نسمات الريح عادت أمي إلي وعيها الكامل. تنهدت:
علي أي حال يجب أن أحمل لأبيك إجابة علي الأقل.
قلت لها بالبراءة نفسها:
الأفضل له ألا يشغل نفسه بذلك سوف أذهب إليه في ديسمبر وأشرح له الأمر.
قالت هي:
لا زالت هناك عشرة أشهر.
قلت لها:
علي الأقل لا يمكن عمل أي شيء بالنسبة للجامعة
هل تعدني جديا بالذهاب.
أعدك بذلك.
لأول مرة يبدو في صوتها شيء من التشوق:
هل أستطيع أن أقول لأبيك إنك ستذهب.
أجبتها مقاطعا:
لا هذا لا.
كان واضحا أنها تبحث عن مخرج آخر لكنني لم أمنحها الفرصة.
قالت هي:
إذن يجب أن أقول له الحقيقة حتي لا يبدو الأمر خداعا.
قلت لها:
حسنا قولي له الحقيقة.
اتفقنا علي ذلك, من لا يعرفها يعتقد أن الأمر انتهي عند هذا الحد لكنني كنت أعرف أنها مجرد لحظات من الهدنة تلتقط فيها أنفاسها بعد قليل نامت بعمق هبت نسمة هواء خفيفة هزت الأعمدة ونشرت هواء معبقا برائحة الزهو, بعدها اعتدلت المركب وبدت كما لو كانت مركبا شراعيا.
لا يوجد شاطيء علي الطرف الآخر!
كنت دائما أعتقد أن تلك المذبحة كانت في مكان ما أمام محطة' اراكاتاكا' ومرات عديدة عندما كنت أرافق جدي لاستقبال القطار أستعيد في خيالي ذكرياتها المرعبة
في هذه الحلقة يتناول جابرييل ماركيز رحلة مع جده عبر نهر ثيناجا جراندي في مركب بخاري ويحكي عن مشادة جرت بين جده الكولونيل وأحد البحارة حيث تآمر بعض الركاب علي الجد لإلقائه في النهر لكن الجد تغلب عليهم بفكاهاته التي بقيت في ذاكرة ماركيز إلي ما يقرب من20 عاما عندما التقي بعمه استيبان كاريو بأحد المطاعم وقت أن كان ماركيز يمارس مهنة بيع الموسوعات ليعود بعدها إلي حواره مع أمه حول رغباته القديمة في ممارسة مهنة الكتابة ورفض الأب لهذه الرغبات.
كنا في نهر' ثيناجا جراندي' إنها أسطورة أخري من أساطير طفولتي سبحت فيه عدة مرات عندما كان يأخذني جدي الكولونيل' نيكولاس ريكاردو ماركيز ميخيا' من' اراكاتاكا' إلي' بارانكيو' لزيارة أبوي. قال لي مرة وهو يتحدث عن تقلبات أحوال مياهه:' لا يجب الخوف من نهر ثيناجا ولكن يجب احترامه' تبدو مياه النهر تبدو أحيانا كمياه بحيرة راكدة وفي أحيان أخري تبدو كمياه المحيط في فصل الأمطار يصبح تحت سيطرة عواصف الجبال وخلال الأشهر من ديسمبر إلي إبريل عندما تصبح الرياح قوية فإنها تهب عليه وتجعل من كل أمسية مغامرة جدتي لأمي' ترانكيلينا ايجواران' لم تكن تجرؤ علي عبوره إلا تحت ضغط إلحاح قضاء حاجة عاجلة وجاءها هذا الرعب من النهر بعد تلك الرحلة العاصفة التي اضطروا خلالها إلي الاختباء حتي الفجر في مدخل النهر.
لحسن الحظ فإنه في تلك الليلة خرجت عبر نوافذ القمرة لتنسم بعض الهواء قبل الفجر بقليل كانت أضواء قوارب الصيد الصغيرة تضيء وتنعكس علي سطح الماء كالنجوم كانت كثيرة لا يمكن حصرها والصيادون الذين يخفيهم الظلام يتحادثون كما لو كانوا في اجتماع عائلي, الأصوات لها رنين قوي يسبح مع نسمات الفجر ارتكزت بكوعي علي حافة النافذة محاولا تبين شكل الجبال في تلك اللحظة فاجأتني الذكريات الأولي.
في لحظة مثل هذه كنا نعبر نهر' ثيناجا جراندي' كان جدي قد تركني نائما وذهب إلي الكانتين لم أكن أعرف في أي ساعة كنا عندما استيقظت علي أصوات لأناس كثيرين تأتيني من خلال فتحات التهوية الصدئة وقرقعات حوائط صفيح القمرة الصدئة لم أكن قد بلغت الخامسة من عمري شعرت بفزع كبير لكن سرعان ما حل الهدوء واعتقدت أنني كنت في كابوس في الصباح كنا في نهاية نهر ثيناجا كان جدي يحلق ذقنه أمام المرآة المعلقة علي الجدار والباب مفتوح لا زلت أتذكره جيدا: لم يكن قد ارتدي قميصه بعد لكنه كان يرتدي علي ملابسه الداخلية حمالات طلقات الرصاص المطاطية العريضة ذات الخطوط الخضراء بينما يحلق ذقنه كان يتجاذب الحديث مع رجل آخر لا زلت أذكر ملامحه ويمكنني أن أتعرف عليه الآن من أول وهلة كان يشبه الحمل لا يمكن أن تخطيء العين هيئته علي ذراعه اليمني وشم لبحار وفي عنقه عدة سلاسل ذهبية ثقيلة وفي كلا رسغيه يرتدي أيضا أساور ذهبية كنت مرتديا ملابسي أحاول أن أضع قدمي في الحذاء عندما قال الرجل لجدي:
'لا تشك في هذا يا كولونيل ما أرادوه هو إلقاء حضرتك إلي الماء'.
ابتسم جدي دون أن يتخلي عن حلاقة ذقنه وبنغمة معروفة عنه رد عليه:
'من حسن حظهم أنهم لم يحاولوا فعل ذلك'.
عندها فقط فهمت ما حدث بالليل فشعرت بالرهبة من فكرة أن يقوم شخص ما بإلقاء جدي في نهر ثيناجا. أراه الآن بكل التفاصيل الدقيقة ويبدو أمامي مرفوعا علي الأعناق كما لو كان' سانشو بانثا' في خمارة وملقي علي جانب النهر لكن في لحظة حدوث الواقعة كانت قد انمحت من ذاكرتي بالكامل بعد عشرين سنة عادت تلك الذكريات فجأة إلي ذاكرتي بلا سبب عادت واضحة وكما حدثت وعندما كنت أتناول الغداء مع عمي' استيبان كاريو' في أحد مطاعم' ريواتشا' في تلك الفترة التي كنت أبيع فيها كتب الموسوعات والوصفات الطبية قاطعا قري منطقة' جواخيرا' وكان الجد وقتها قد مات قصصت الواقعة علي عمي استيبان باعتبارها طرفة لكنه انتفض في قفزة واحدة وكان غاضبا لأنني لم أقص تلك الواقعة عند حدوثها وكان متشوقا إلي التعرف علي شخصية ذلك الرجل حتي يمكنه أن يكشف لنا عن شخصية من أرادوا إغراق جدي ولم يحاول أن يفهم عدم مقاومة جدي لهؤلاء خاصة أنه كان يجيد التصويب وإطلاق الرصاص وكان لا يترك سلاحه أبدا ينام والمسدس تحت وسادته وأنه خلال حربين أهليتين كان يقاتل دائما في خطوط النار الأولي وفي زمن السلم قتل شخصا دفاعا عن نفسه قال لي عمي استيبان إن الوقت لم يفت بعد بالنسبة له ولأشقائه الكثيرين للانتقام من المعتدين علي الجد. إنه قانون' جواخيرا' علي أي فرد من أسرة المعتدي أن يتحمل وزر ما فعله أقرباؤه وأنه علي جميع رجال أسرة المعتدي أن يتحملوا وزر ما حدث كان عمي استيبان مصرا علي الانتقام أخرج مسدسه من تحت الوسادة ووضعه علي المائدة أمامي لحين الانتهاء من التحقيق معي منذ تلك اللحظة عندما كنا نلتقي خلال رحلاتنا في منطقة الكاريبي يعود لتعنيفي لعدم تذكري لتلك الواقعة وفي إحدي الليالي جاء في زيارة مفاجأة في مكتبي بالصحيفة التي كنت اعمل فيها في ذلك الوقت الذي كنت أحاول فيه أن أجمع معلومات أولية عن أسرتي لكتابة روايتي الأولي وعرض علي أن نقوم معا ببحث دقيق عن ملابسات واقعة الاعتداء علي جدي. إن عمي لم يتخل عن فكرة الانتقام أبدا وفي آخر مرة رأيته فيها في' كارتاخينا دي أندياس' وكان قد بلغ أرذل العمر وقلبه المريض ودعني بابتسامة حزينة قائلا:
'لا أفهم كيف استطعت أن تكون كاتبا بتلك الذاكرة السيئة'.
ذكري تلك الواقعة التي لم تتضح أبدا فاجأتني في ذلك الفجر الذي كنت أتجه فيه مع أمي لبيع البيت. وبينما كنت أتأمل الجليد علي قمم الجبال التي تلونت بالأزرق مع أشعة الشمس الأولي منذ تلك اللحظة وحتي اليوم أصبحت أسيرا للذكريات.
التأخير في تلك الليلة أتاح لي أن أري في وضوح النهار تلك المساحة الرملية التي تفصل البحر عن نهر ثيناجا حيث كانت تبدو علي مرأي البصر بيوت الصيادين التي تنتشر عليها شباك الصيد المعرضة للشمس علي هذا الجزء من الشاطئ والأطفال يلعبون الكرة المصنوعة من الخرق كان مشهدا مدهشا أن أري العديد من الصيادين يسيرون في الشوارع بأذرع مقطوعة بترها الإهمال في سرعة إلقاء الديناميت وعندما مرت المركب كان الأطفال يلقون بأنفسهم في النهر ويغوصون لالتقاط القطع المعدنية التي يلقيها إليهم المسافرون. كانت الساعة قد تعدت الثامنة عندما ألقت المركب بالمسافرين بالقرب من بحيرة راكدة لا تبعد كثيرا عن قرية' ثيناجا'. استقبلنا عدد كبير من الحمالين بأربطة ملفوفة علي سيقانهم وحملونا علي أكتافهم حتي رصيف الميناء.
بينما كنا نتناول طعام الإفطار ببطء علي موائد الميناء التي يقدمون عليها الخبز الممزوج بالموز الأخضر المقلي استغلت أمي الفرصة لتبدأ شن حملة جديدة في حربها الشخصية ضدي. كانت تجلس إلي جواري ودون أن ترفع بصرها نحوي عادت لتسألني فجأة:
'إذن قلي بكل وضوح ماذا أقول لأبيك'.
حاولت أن أكسب بعض الوقت قبل أن أجيب علي سؤالها:'عن أي شيء'.
قالت بشيء من العصبية:
'عن الشيء الوحيد الذي يهمه دراستك'.
كان حسن حظي ان شخصا أراد التدخل في الحوار خلال تعجلها للتعرف علي أسبابي الخاصة هذا التدخل لم يصبني بالخرس بل فاجأها هي نفسها تلك التي كانت تحاول دائما أن تخفي مشاعرها الخاصة. قلت:
'أريد أن أصبح كاتبا'.
قال الرجل بجدية:
'كاتب جيد يمكنه أن يكسب أموالا كثيرة بالطبع إذا عمل لحساب الحكومة'.
لا أعرف إن كانت أمي حاولت إنهاء الحديث تجنبا للخصوصية أم خوفا من كلام الرجل المتطفل ولكنهما انتهيا معا إلي الحديث عن ضياع جيلي وعدم معرفته لما يريد وانتهيا إلي التحسر علي الذكريات القديمة ثم انتهيا إلي التعرف علي أسماء لأصدقاء مشتركين وإذا بهما يكتشفان انهما أقارب من ناحية أسرة' كوتيس واجواران'. وكان هذا يحدث تقريبا بمعدل اثنين من كل ثلاثة أشخاص نلاقيهم في الشاطئ الكاريبي وكانت أمي تفرح لهذه المناسبة كما لو كان الأمر مناسبة عائلية.
ذهبنا إلي محطة القطارات مستقلين عربة يجرها حصان واحد ربما كان الحصان الأخير من نوعية خاصة بدأت تنقرض من العالم كله كانت أمي غارقة في التفكير تتأمل السهل المحترق من تأثير المساحات الملحية التي تمتد من الميناء وتنتهي في الأفق كان المكان بالنسبة لي تاريخيا: في يوم من الأيام عندما كنت في الثالثة أو الرابعة من عمري سحبني جدي من يدي عبر ذلك السهل الحارق سيرا علي الأقدام بخطوات سريعة ودون أن يخبرني إلي أي مكان نحن ذاهبون وفجأة وجدنا أنفسنا أمام أفق من الماء الأخضر المخطط بالزبد الأبيض وكانت تعوم علي سطحه أعداد لا حصر لها من الدجاج الغارق. قال لي:
'إنه البحر'.
وأنا في حالة من الغثيان سألته عن ما يوجد علي الطرف الآخر من الشاطئ ودون ان يشك لحظة أجابني:
'لا يوجد شاطئ علي الطرف الآخر'.
اليوم بعد كل ما شاهدته من محيطات يمينا ويسارا لا زلت اعتقد أن إجابته كانت إحدي اكبر الإجابات التي كان يقدمها لي عن تساؤلاتي.
لا أذكر متي سمعت الحديث عن البحر لأول مرة ولا أذكر مشهده الذي دخل ذاكرتي من خلال حديث الكبار عنه وإن كان جدي حاول أن يريني إياه من خلال قاموسه القديم المهتريء لكنه لم يعثر عليه وعندما استعاد توازنه أمام سؤال حاول أن يشرحه لي من خلال تعبيرات تستحق التسجيل فقال:
'هناك كلمات لا يحتويها القاموس لأن الناس جميعا تعرف معناها'.
لهذا السبب طلب أن يعيروه من مدرسة' سانتا مارتا' قاموسا موسوعيا بصور ملونة مرسوم عليها المحيط الأطلنطي في كرة أرضية يحملها إنسان علي كتفيه. وكان هذا المشهد أول القواميس العديدة التي حصلت عليها في حياتي وقرأته كما لو كان رواية مقررة علي الفصول الابتدائية في المدرسة تابعت القراءة طبقا للفهرس الأبجدي ودون أن أفهم منه شيئا لكن هناك وجد جدي المعني الدقيق لكلمة' بحر' التي لم يستطع الحصول عليها في القاموس الآخر:
'مساحة ضخمة من الماء المالح التي تغطي جزءا كبيرا من الكرة الأرضية.
إزاء هذه المعاني غير المفهومة بالنسبة لي ما كان يمكنني أن أفهم معناها لو لم يأخذني جدي ويضعه أمام عيني لم تكن أي صورة في ذهني تساوي هذا المشهد المرعب لم يكن بالاستطاعة السير علي شاطئه المليء بالبقايا المتعفنة وقطع القواقع. كان مشهدا مقززا.
ربما كانت أمي تفكر في المشهد نفسه وهي تري نهر' ثيناجا' ما إن رأته من خلال نافذة العربة حتي تنهدت:
'لا يوجد بحر مثل بحر ريواتشا'.
في هذه الفرصة قصصت عليها ذكرياتي عن الدجاجات الغارقة وكيف ان الكبار كانوا يعتقدون أنها لم تكن سوي تخيلاتي الطفولية تابعت هي بعد ذلك المشاهد المتتالية في الطريق مكانا وكنت أعرف ما تفكر فيه عن كل مكان من خلال فترات الصمت المتتالية مررنا أمام حي' توليرانثيا' في الطريق المقابل لخطوط السكك الحديدية ببيوته الصغيرة الملونة ذات الأسقف الصدئة وببغاواتها التي تنادي علي الزبائن باللغة البرتغالية من علي حلقاتها المعلقة في الأسقف مررنا أمام موارد تغذية القطارات بالمياه بخزاناتها المستديرة التي تنتهز الطيور المهاجرة والنوارس التائهة الفرصة لتنام عليها لالتقاط أنفاسها. مررنا أمام البيت الكئيب الذي اغتالوا فيه' مارتينا فونسيكا' ومررنا حول المدينة دون أن ندخلها لكننا لاحظنا الشوارع الكبيرة الخالية من المارة والبيوت القديمة التي فقدت بريقها كانت بيوتا من تلك ذات النوافذ العالية التي كانت تنطلق منها نغمات التدريب علي آلة البيانو منذ مطلع الفجر بلا انقطاع وفجأة أشارت أمي بإصبعها وقالت:
'انظر هناك حيث كان ينتهي العالم'.
تابعت أنا إصبعها حيث تشير رأيت محطة القطارات: كانت مكونة من مبني من الخشب الكالح وسقف زنكي مموج وشرفات مستديرة في مواجهة ميدان صغير لا يستطيع ان يحتوي علي أكثر من مائتي شخص هناك حيث أخبرتني أمي قتل الجيش عام1928 عددا غير معلوم من عمال الموز.
فاجأتني المعلومات التي قدمتها لي أمي لأنني كنت دائما أعتقد أن تلك المذبحة كانت في مكان ما أمام محطة' اراكاتاكا' ومرات عديدة عندما كنت أرافق جدي لاستقبال القطار أستعيد في خيالي ذكرياتها المرعبة: عسكري يقرأ القرار الذي يعلن ان العمال المضربين ينتمون إلي الجماعات الإرهابية ويمنح العسكري آلاف الرجال والنساء والأطفال الذين كانوا ينتظرون تحت الشمس الحارقة مهلة من خمس دقائق لإخلاء الميدان ثم أسمع أمر إطلاق النار واسمع طلقات الرصاص ذات الأزيز والجمع يسيطر عليه الرعب يخلي الميدان شبرا شبرا بينما المدافع الرشاشة لا تتوقف عن إطلاق النار اعتقد أن جدي كان علي علم بتخيلاتي المزيفة فقد سألته مرة في محطة' اراكاتاكا' أين كانوا يضعون المدافع الرشاشة كان هو يقرأ رسالة تلقاها ودون أن ينظر إلي أشار إلي سقف بعض عربات القطار وقال:
هناك
ثم واصل بعدها قراءة الرسالة ما أن انتهي من قراءتها حتي قام بتمزيقها قطعا صغيرة ليتأكد أن زوجته لن تقرأها ثم سألني مندهشا:
'ما الذي كنت تريد أن تعرفه عن المدافع الرشاشة'.
قدرتي علي تصوير بعض الأشياء كما لو كانت أشياء عشتها بنفسي كانت في طفولتي كبيرة جدا وهذا سبب لي الكثير من اختلاط الذاكرة لكنها لم تكن أبدا مثل تلك التي كنت أعتقد فيها أن المذبحة وقعت في محطة' أراكاتاكا' مع ذلك فان تأكيد أمي لا يقبل الجدل خاصة بعد أن سألتها عن عدد القتلي فقد أجابتني بالطريقة نفسها:
سبعة
ثم نبهتني علي الفور ألا أخذ الرقم علي انه مؤكد لأنه يوم وقوع المذبحة سمعت هي أن عددهم يتعدي المائة ثم بدأ العدد بعدها يتناقص شيئا فشيئا إلي اللاشيء ولم يعد من ذكرياتي أي شيء قابل للحقيقة سوي أن الجنود أطلقوا النار من علي سطح القطار.
رؤية أمي للواقعة كانت تتضمن أعدادا قليلة والمشهد كان فقيرا مقارنة بالمشهد البطولي الذي تخيلته وهذا أشعرني بنوع من خيبة الأمل بعدها تحدثت مع شهود أحياء من تلك الواقعة وعدت إلي القصاصات الصحافية والوثائق الرسمية فتأكدت أن الحقيقة كانت مخالفة تماما لكل الروايات لكن رواية أمي كانت أقربها إلي الواقع. البعض يقول إنه لم يكن هناك أي قتيل والذين يعارضون الحكومة كانوا يؤكدون أن القتلي يتعدون المائة وأنهم شاهدوهم بأنفسهم ينزفون في الميدان وأنهم حملوهم في القطار لإلقاء جثثهم في البحر كما لو كانوا موزا متعفنا. وهكذا ضاعت الحقيقة إلي الأبد بين الروايات المختلفة ما بين النقيضين.
ذكرياتي الكاذبة ظلت تلح علي حتي إنني أشرت إلي المذبحة في إحدي رواياتي بكل تفاصيلها الدقيقة والرعب الذي أعتقد أنه سيطر علي أراكاتاكا وذلك لأنني لم أستطع أن أضعها في أي من الروايات المختلفة التي توصلت إليها بعد ذلك وهكذا رفعت عدد القتلي إلي ثلاثة آلاف بدلا من سبعة لأحافظ علي قيمة الأرقام الدرامية, الحياة الواقعية لم تتركني طويلا لتقدم لي اعترافها بعبقريتي: منذ قليل في حفل إحياء الذكري السنوية للمذبحة طلب المتحدث الوقوف دقيقة حدادا علي أرواح الثلاثة آلاف قتيل المجهولين من ضحايا المذبحة الذي قتلتهم قوات الأمن*
يتبع
منقول من مذكرات قبرائيل غارسيا ماركيز