المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في حضرة أبو سليم



حسن سادة
03-07-2007, 04:50 AM
مقدمة:
أبو سليم هو عالم التاريخ السوداني
البروفسير محمد ابراهيم أبو سليم مؤسس دار الوثائق المركزية
ومديرها لعدة عقود وقد وضع بصمات بارزة في
كل ركن فيه وله العديد من الأبحاث والمؤلفات التاريخية والأدبية
وقد كان الراحل أيضاً عميد كلية المكتبات بجامعة أم درمان الأسلامية



في ذاتِ ليلة ليلاء من ليالي المنامة الحالمة حاضرة البحرين، ذكرتُ مكاناً عزيزاً علي ألا وهو تلك العاصمة المثلثة التي يطلقون عليها الخرطوم وأحسب أن معالمها الآن قد تغيرت كثيراً وربما لبست ثوباً قشيباً من الجمال وإكتست ألقاً وبهاءاً مما دعاني أزداد شوقاً إليها وأهرول صوب التلفاز فأمسك بالريموت كنترول وأفتح الفضائية السودانية لأجد الطيب عبد الله وهو يردد هذه الكلمات:
" الغريب عن وطنه مهما طال غيابه، مصيره يرجع تاني لي أهله وصحابه إلخ الأغنية"
فتمددت في تكاسل بالغ فوق الأريكة الموضوعة في كبد الصالون وأطلقت العنان لخيالي ليسرح كيفما يشاء وقد أطاعني وحملني بين جناحيه وحلق بي إلى الخرطوم فوجدت نفسي في مكان ظلوا يطلقون عليه في العهود البائدة إبان جاهليتنا الأولي ميدان أبو جنزير بيد أنهم الآن أخذوا يطلقون عليه سنتر الخرطوم فأخذوا يرددون إسمه في أغنياتهم:" سنتر الخرطوم والسهر بالكوم إلخ هذه السخافات" بنايات شامخة قد تناثرت هنا وهناك وأنا أتجول كالمعتوه في شوارع الخرطوم بلا وجهة محددة أقصدها وأنا في حيرة وغرابة لم ترتقى إلى درجة الإنبهار والإعجاب البالغ الذي يرددون معه عبارة Wow ولسان حالي يردد تارةأغنية البلابل:
" بي فرح عودتنا رفت وزغردت دمعات حنينة"

وتارة أخرى رائعة ود الأمين:
" حلاوة العودة غنيناها في موال إلخ"

وفجأة توقفت أمام حديقة الحيوانات سابقاً فلم أجدها
ولم أجد الفيل الذي كان يتغنى باكياً: "جابوني ليه ليه أنا ليه هنا
وحبسوني ليه" فساءلت نفسي تُرى أين ذهبوا بهذا الفيل المغدور به؟
هل أعتقوا سراحه أم أنهم قد إستبدلوا سجنه بآخر أشد وطأة وقمعاً
وأخذت أمشي وأمشي كالمعتوه كمن يبحث عن ضالة منشودة وأنظر ملياً ذات اليمين وذات اليسار أتأمل كل شيء أمامي وحولي ولكنني وجدت أن الخرطوم ورغم هذه الطفرة السلحفائية التي طرأت عليها إلا أنها لا زالت تفتقر شيئاً ما.

شئ جوهري! معلم شامخ من معالم الخرطوم قد تلاشى وتوارى خلف الأنظار. نعم قد شهدت الخرطوم تطوراً لا بأس به ولا زالت التطورات تجري على قدم وساق ولكنها قد إفتقدت النكهة والطعم والمذاق الفريد،،،،، فأخذت أدور وأدور وأنا أصدح في سري قائلاً:
" أدور حولك با حساسى
ربيع بغازل النوار
واشيلك جوة انفاسى
عشان تطفى اشتياقى الحار
وبين طارينى لاناسى
لقيت الحيرة فيك تحتار
كانى حداك ظل مشتول
على دروب الزمن بطول
اشوف معناك فى كل زول
شرب من طعمك المعسول
ودا الخلانى فيك اقول
قدر ما يرجى عمرى الحول
كلاماً بالغزل مغزول
ولحنا فى البعاد موصول
وكيف ما اشيل هواك فصول
وقلبى برؤيتك مأهول"

وهأنذا لازلت أدور وأدور وأتوه من مرفأ لي مرفأ
" وأنا ألملم قدرتي الباقية
وأشد ساعد على المجداف وأغيّر سكة التيار
وأنظر ملياً إلى أحزان عيون الناس
لأسأل عن بلد رايح
وافتش عن بلد سايح
واسأل عن امانينا
اللي ما بتدينا
صوت صايح
وأسأل وين مخابينا
إذا جانا الزمن لا فح
واسأل عن بلد مجروح
وعارف الجارحو ليه جارح
وابكى على بلد ممدوح
وعارف المادحو ما مادح
واحلم بي حلم مسروق
لا هو الليلة لا امبارح"

وبينما كنت مستغرقاً في غياهب الذكريات،
ناداني مناد بغتة وهو يقول لي:
"لو حاولت تتذكر ..
تعيد الماضي من أول ..
تلقي الزمن غيّر ملامحنا
ونحن بقينا ما نحن .."
فأجبت عليه في تحد سافر:
" لو كان الزمن قساك
انا ما قسيت..
ولو في يوم زمن نساك
انا ما نسيت.."
وتركت المنادي وشأنه ومضيت قدماً في سبيلي للبحث
عن ذلك الشيء المفقود في الخرطوم
عن ذلك النور الذي إنطفأ
وذلك النجم الذي أفل

أيها الأحبة
أتدرون من هو الذي إفتقدته الخرطوم؟؟؟!!
إنه عمي الحبيب الراحل المقيم
بروفسير محمد ابراهيم أبو سليم

وأستميحكم عذراً لأسكت عن الكلام المباح
فقد خانتني الدموع وسالت فيضاً مدراراً
فمنعتني من المواصلة
فأبقوا هنا قليلاً ريثما أهزم الدموع
وأجففها وأعود إليكم مجدداً

حسن سادة
03-07-2007, 04:55 AM
ذات ليلة من أمسيات الكلاكلة المقمرة أصبحت فيها الإدارة المركزية أكثر كرماً وسخاء وأجادت للعالمين بفيض من الكهرباء وأتحفتنا بالنور البهر فهرولت حنان جذلة في إحتفالية غير عادية صوب التلفاز الذي إتخذ له موضعاً إستراتيجياً في صحن الدار محاطاً بأسراب الرتيلاء والحشرات التي كم تاقت إلى النور الذي كان عصي الإضاءة لمدة تقارب الأسبوع أو يزيد وجلست تشاهد برنامج "ساحة الفداء" إن لم تخني ذاكرتي الهرمة أو ربما كان برنامج "عرس الشهيد" فهما على شاكلة واحدة وإن إختلفت التسمية وكان بعض الجنود يرددون بصوت مدو يجلجل الآذان:
" في إيدينا رشاش في إيدنا خنجر،،، توكلنا على الله، الله أكبر"
بينما إنهمكت والدتي سعدية في أداء الصلاة أما والدتي الثانية زينب - التي كانت قد قدمت على التو من البلد لإجراء بعض الفحوصات الطبية – قد لبثت في البرندة الأخرى تتفحص مجموعة من الأدوية التي صرفت لها من المستشفى لتتأكد من طريقة الإستخدام وفجأة سمعنا طرقاً في الباب فذهبت مسرعاً لأفتح الباب ووجدت عمي الراحل أبو سليم برفقة خالتي حليمة وأخذ يحييني بحميميته المعهودة
: " أهلاً يا حسن أفندي مأمور شندي"
وأردف يقول:" يا حسن! هل وضعت الحرب أوزارها ودارت رحاحها في منزلكم أم ماذا؟ فقلت له:" معاذ الله يا عمي العزيز ! أي حرب تتحدث عنه؟ فقال متهكماً:
" ألا تسمع هذا الضجيج الذي تعلو أصداؤه في الداخل! ومن هم هؤلاء الذين توكلوا على الله وأخذوا بأيديهم الرشاشات والمدافع؟ فقلت له: " إنها أختي حنان التي تعشق مشاهدة التلفاز تشاهد برنامجاً حياً على الهواء"
فإصطحبته وهو لا يزال مستغرقاً في الضحك إلى الداخل وعندما إقترب من فناء الدار أخذ ينادي بصوت عال:
" أين أنتن يا حريم محمد آدم ؟ أخرجن إلي هنا" وإلتفت إلى فجأة وأخذ يسألني:
" أين ذهبت نسوان أبوك يا حسن أفندي" فقلت له: " واحدة تصلي في الداخل والأخرى جالسة في البرندة وهي تتفقد أدويتها" فأعقب يسألني متهمكاً :
" أتعني أنهن في الحرملك؟" فأجبته متسائلاً :
" وما هو الحرملك يا عمي" فقال لي مستغرباً:" إنه قسم النساء في القصور"
وعندئذ أتت خارجة بنت الحاج فقال لها بعد أن حياها أحسن تحية:
" يا أم آدم ألا تعلمين أن هذا الوقت ليس وقت صلاة على الإطلاق
فأي صلاة بربك كنت تصلين!" وأردف قائلاً:" لعلك كنت تصلين صلاة إستخارة"؟

كانت ليلة سوف لن تنمحي من على الذاكرة ولا يطالها النسيان أبد الدهر فأخذ طوال الليل يتحفنا جميعاً بقفشاته الممتعة وخفة دمه ومرحه فنضحك ملء أشداقنا
ضحكة من داخل أعماق القلب السحيقة ألا رحمك الله يا معشوق الملايين الذي ظل في دواخلنا حياً باقياَ نستمد منه الوهج والألق

وإلى اللقاء في إستراحة أخرى في حضرة أبو سليم

فترقبوني ملياًَ

حسن سادة
03-07-2007, 04:58 AM
عمي العزيز أبو سليم
هأنذا أمضي قدماً
وأواصل سرد حكاوينا القديمة
"وتبقى سيرتك هي الكلام
تبقى صورتك فى الرؤى
الحلوة البعيشها في صحوتى
أو حتى في عز المنام
يبقى اسمك هو الغنى
وهو البخفف لي عذابات الضنى"

لأنه ثمة:

حاجة فيك لا بتنتهي ولا بتتنسي
خلتني ارجع للقلم اتحدى بالحرف الالم
واضحك مع الزمن العريض
وافتح متاريس الطريق
واعرف متين ابقى المطر "

فدعني يا عماه العزيز أسكب دموعاً حرّى فأنهمر وأسقي
الوديان سيولاً تغمر اليابس فيخضر
زرعاً أخضراً حاملاً إسمك الذي سيبقى عالقاُ
في الأذهان منه نقتبس الضياء بل نذوق طعم الحياة

خلال أحد الأعياد توجهنا أنا ولفيف من الجالية الكربينية
بالكلاكلات لزيارة أهلنا بالشجرة وبدأناها بزيارة عمنا الراحل أبو سليم
وبعد أن إنتهت مراسم المعايدة وجابوا لنا "الكرين إميد " فأصبحنا فرحانين
وهممنا بالتوجه لزيارة باقي الأهل بالشجرة رفض المرحوم أبو سليم أن أذهب معهم
وقال لهم وهو يشيعهم في الباب:
" يا أهل كربين إذهبوا فأنتم الطلقاء ولكن حسن أفندي سيلبث هنا معي قليلاً "
فقالوا له: " لا بأس يا عم" ومضوا في سبيلهم فقال لي وهو يمسك بيدي في حنان أبوي بالغ:" يا حسن أفندي لماذا أسماك والدك بحسن العجيب؟ فضحكت وقلت له:
" لأنني في كل مرة كنت أطلب منه نقوداً أو هدية فيرسلها لي كنت أبعث له فوراً رسالة أخرى عاجلة أطلب منه طلباً آخر" فأعقبه بسؤال آخر:" ولماذا يسمي خطاباتك له بالخطابات الموسمية؟ فأجبت:" لأنني كنت أراسله في الأعياد فقط من فرط كسلي وتقاعسي" فقال لي :" هل تحتفظ ببعض من خطاباته إليك فأنا مولع بأسلوبه الثر في الكتابة وسخرياته وقفشاته الظريفة؟ " فوعدته بأنني عندما أعود إلى الكلاكلة سوف أرسل إليه ما طلبه وذهبنا إلى الصالون وأحضرت لي خالتي حليمة كوباً من العصير
بينما جلس الراحل على مقعد وثير في ركن قصي من الصالون ، أخذت الخالة حليمة تسألني بصوت خفيض عن أخبار وشؤون كلاكلية بحتة فقال المرحوم أبو سليم وهو يمازحنا:" ما بكم يا حليمة وحسن أفندي يا معشر أهل فركة مالكم توسوسون؟ ويل لكل همزة لمزة! فقالت خالتي حليمة وهي مستغرقة في الضحك:" مالك يا راجل عملت حسن كمان من فركة؟
فأجاب:" إنه إبن القطرين فجدته فاطمة دسوقي من آل الكفن أسي بفركة"
وذهبت الخالة إلى الداخل وقد حملت معها صينية العصير ووجدته وقد قطع المزاح المتواصل وكف عن الدعابة فجأة وإستبدل نظارته بنظارة القراءة وجذب إليه كتاباً سميكاً وورقة وأخذ يدون شيئاً فأيقنت أن هذه اللحظة هي اللحظة التي يهبط فيها إليه ملاك الإبداع فتركته وشأنه وجذبت مجلة كانت ملقاة بجانبي وإستغرق ذلك قرابة النصف ساعة وبعد أن فرغ منه وضع النظارة جانباً وقال لي:" أتعرف يا حسن أفندي أن أول عمل لوالدك في السودان كان في الري المصري؟ فقلت له مستغرباً:" كلا يا عمي فقد كنت أحسب أنه قد بدأ بالسكة حديد"

وفجأة أتانا جموع من المعيدين فإنشغل بالحديث إليهم في شؤون عدة

ألا رحمك الله يا عمي العزيز أبو سليم
وتغمدك بواسع رحمته ورضوانه
اللهم أمين

سأواصل فيما بعد فأبقوا معي

حسن سادة
03-07-2007, 04:59 AM
أستميحك عذراً عمي العزيز إذ هجرت حضرتك البهية لفترة من الزمن وتوقفت بغتة عن سرد الكلام المباح وعن إجترار ذكرياتك الدفينة التي ضربت جذورها إلى الأعماق السحيقة في دواخلي رغم شوقي لهذه الواحة الظليلة التي أرتاح فيها من عناء مشوار الحياة فقد أفاض بي الحنين ......

فهأنذا اليوم ألج في بهاء حضرتك السامية لأرتمي في صدرك الحنون باكياً وأشكو لك عن عزيز غال قد هجرنا إلى الأبد دونما أي إنذار ولا إستئذان فقد سافر ورحل عن دنيانا بغتة بلا تصاريح للسفر وفجعنا برحيله المفاجئ فقد رد الله وديعته اللهم لا اعتراض في حكم الله وكل نفس ذائقة الموت والدوام لله وحده سبحانه تعالى

أوتدري يا عماه الغالي عمن أشكو إنه إبن عمي وحبيبي الغالي سالي بليلة إبن أخيك محمود غنيمي تغمده الله وإياكم وكل موتانا بواسع رحمته وغفرانه ورضوانه وجعل مقابركم روضة من رياض الجنة. اللهم آمين

ألا زلت تذكر يا عماه الحبيب تلك العصرية حين أتيت إلينا بمفردك في منزل عمي إدريس رحمه الله رحمة واسعة حيث كنا نجلس سوياً بمعية لفيف من آل حاج حفظهم الله ورعاهم وكان من بينهم المرحوم صالح وحينما حان وقت صلاة المغرب قلت مخاطباً المرحوم صالح:" قم صلي بنا المغرب يا مولانا صالح يا راجل يا بركة"
فأجاب وهو يفرك عينيه كعادته المعهودة:" العين ما بتعلو على الحاجب يا دكتور،
بل أنت الذي ستصلي بنا" فأصررت أنت على طلبك وصلى بنا جميعاً وحينما إنتهت الصلاة همست في أذني قائلاً:" قم بنا يا حسن أفندي لنسجل زيارة خاطفة لخالك قوديب فقد تناهى إلى مسامعي إنه طريح الفراش إثر وعكة صحية قد ألمت به" فقلت لك :" حاضر يا عمي وأنا أيضاً لم أزره منذ مدة طويلة"
وإستأذنت أنت من الحضور وذهبنا سوياً لزيارة قوديب وقلت لي في الطريق حينما صادفنا جموعاً غفيرة من الكلاب الضالة التي كانت تجوب محطة 8 دونما أي هدف يذكر ولا وجهة منشودة وهي تزهو بذيولها مختالة :" لا أدري يا حسن أفندي ألا ترى معي بأن الكلاكلات والأمبدات لها نصيب الأسد من الكلاب الضالة في الخرطوم؟ فقلت له وقد تملكني هستيريا الضحك: " والله إنك قد صدقت القول يا عمي وربما كان ذلك مرده كثرة العظام في هاتين المنطقتين" فقال لي وهو يعدل عمامته التي كانت قد تهدلت فوق صدره بفعل الرياح : " ربما !!! من يدري"

وعندما دنونا من باب دار قوديب أخذت أنت تنادى من وراء الحجرات بأعلى صوتك:
" يا أهل فركة أفتحوا لنا الباب! ها نحن معشر أهل سركمتو قد قدمنا إليكم!!!
أين أنت يا قوديب أيها الرجل العجوز" فأتت بنته الصغيرة وفتحت لنا الباب فولجنا إلى الداخل وعندما إقتربنا من المرحوم قوديب الذي إفترش فرواً كان قد وضعها فوق السرير ودهن ركبتيه بالزيوت الطبيعية وأخذ يفركهما بأطراف أنامله بين الفينة والأخرى فقلت له أنت مداعباً:" يا قوديب يا عجوز هنالك مثل مصري يقول (الموت لو خلاك الكبر ما يخليك) فأجابك قوديب وهو مستغرق في الضحك :"
أنا لا زلت شاباًَ يافعاً يا سعادة الدكتور والدليل أنني أنوي الزواج هذه الأيام بفتاة صغيرة"
وما أن سمعت أنت ذلك أخذت تقول لي متهكماً:
" أتسمع يا حسن ماذا يقول قريبك الحيزبون هذا؟
وأخذت تنادي بأعلى صوتك:" أين بنتي سلامة لأخبرها بهذه التخاريف!!!
يا سلامة أخرجي إلينا فوراً.
فأتت سلامة وهي تعدل طرحتها وقالت:" مرحباً يا دكتور والله شرفتنا بزيارتك هذه"
فقال لها:" شرف الله مقدارك يا ست الكل" فقالت سلامة:" أكنت تناديني يا دكتور؟
فقال لها وهو يحاول عابثاً أن يخفي إبتسامته المعهودة:" نعم فقد إشتقت للشاي المعتبر الذي تقومين بإعداده لي دائماً" فقالت:" حاضر وذهبت إلى المطبخ فقال مخاطباً قوديب:" ألا ترى أنني سترتك وأخفيت أمر زواجك وقد كان بإمكاني أن أخبرها بما قلته لي ولكنني صنت العشرة وأخذنا نضحك جميعاً
كانت جلساته حافلة بالقفشات الساخرة والدعابات البرئية التي تبعث البهجة
إلى النفوس وتبث الروح في الحجر الأصم

ألا رحمه الله رحمة واسعة
وأسكنه فسيح الجنات
مع الصديقين والشهداء
وحسن أولئك رفيقاً

وإلى سيرة أخرى نعود إليها في حضرة جلال أبو سليم
طيب الله ثراه

حسن سادة
03-07-2007, 05:02 AM
عندما حان يوم الخميس وكان كلاكلياً هوانا، نادى مناد في محطة 12 قبالة المدرسة الإبتدائية يدعو الناس إلى التجمع أمام المدرسة عند السابعة مساءاً ريثما يصل البص المؤجر الذي سيقلنا جميعاً إلى بتري لحضور ليلة حنة قريبنا سيد إسماعيل يس فتفشى الخبر وذاع وعم القرى والحضر فتجمهر الناس حول البص يتدافعون تباعاً للصعود إلى البص والظفر بمقعد يقيهم شر الوقوف طيلة هذه المسافة في طريقنا إلى بتري في تخوم الخرطوم في الضواحي طرف المدائن على مشارف سوبا

وأخذت الجلبة تعلو المكان فها هي إحداهن وقد حملت رضيعها وأخذت تناوله لأحدهم فوق البص عبر النافذة الحديدية وأخيراً تحرك البص وسط الزغاريد المقرونة بالضوضاء وهو يجوب محطات الكلاكلة تجاه الأسفلت وأخذت بعض النسوة تردد أغنية توود عريس نقدو وصاح أحدهم من مقدمة البص مخاطباً شخصي الضعيف قائلاً:" غني لنا،،، غني لنا يا حسن" فقلت له مازحاً:" ولماذا أغني هل اليوم نرفع راية إستقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا؟"
فقال لي وقد أزعجه ردي:" هاهاها دمك خفيف،،، عليك الله غني لينا حاجة يا حسن وما تقعد تتعزز" فقلت له:" كيف أغني وأنا ممسك بالقضبان الممتدة وسط البص وأنا لا أقوى على الوقوف مع تمايل البص وسط هذه الزحمة والبص قد إكتظ كعلبة الكبريت" فأخذ هو يغني مردداً:
" بلال يا بلال يويو جب بلال إلخ الأغنية الشهيرة وأخيراً وصلنا إلى بتري وسط الأهازيج والزغاريد التي لم تتوقف أبداً فذهبت النسوة إلى الداخل بينما تجمعنا نحن في حوش البيت وبعد تناول العشاء شعرت بصداع كاد يفتك بدماغي فإتخذت موضعاً ليس بالبعيد عن بيت العرس وأطلقت العنان لنومة كانت تغازل أعيني طويلاً وأنا أتوسد خشباً كان ملقياً على قارعة الطريق كهجعة زول بعد ترحال وقد أقلقني صوت أناس كانوا يجوبون المكان جيئة وذهاباً وهم يتشدقون بلغة لا بالعربية ولا بالنوبية وهم يحملون حراباً فقلت في نفسي "ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان" ورحت أغط في سبات عميق لم أفق منه إلا على صوت صديقي سمير أمينة وهو يدق على رأسي المصدوع قائلاً:" إصحى يا حسن" فأيقظت مذعوراً وسألته:" هل حننوا العريس أم ماذا؟ فقال لي:" العريس حننوه من زمان وحسع الناس قاعدة تغني والدكتور أبو سليم كان بيسأل عنك بشدة" فقلت له:" لماذا؟ فقال :" لا أدري" فذهبت إلى الحوش وأنا لا أزال أفرك عيني لأزيل أثر النوم العالق وأول ما رآني المرحوم طيب الله ثراه عمي أبو سليم ناداني بأعلى صوته:" أين أنت يا حسن أفندي تعال هنا وأجلس بجانبي وكانت العمة هانم تجلس بيمينه بينما جلست الأخت نوبة عثمان بيساره فقال لي:" أنا طلبتك لكي تغني وتشرف العريس والحضور فقلت له :" سمعاً وطاعة يا عمي العزيز:
" فناديت الكورس وأخذت أغني مردداً" صبردين أيقاً ووا حنينة ووا شافعة
وزينيو وزينيو وزينة شبه الغزالة ووا شافعة "
ومجرد أن إنتهيت من أداء الأغنية ناداني فذهبت إليه فقال لي:" أدنو إلي قليلاً لأهمس لك سراً"
فظننت واهماًُ بأنه كان يهم بمدحي والثناء والإطراء على أدائي ففوجئت به يقول لي:" لقد صدمتني وأصبتني بالإحباط الشديد يا حسن أفندي" فقلت له مستغرباً :" ما عاش من يصيبك بالإحباط يا عمي معاذ الله لم تقول ذلك؟" فأجاب متهكماً:" أنا أطلب منك طلباً خاصاً لكي تغني لي وتأتيني أنت بسيرة الوزينة التي تشبه الغزال! فأعقب قائلاً:" قل لي بربك يا حسن! ما وجه الشبه بين الطيور والغزلان ومن أين أتيت بهذه الأغنية الركيكة؟ فأجبت عليه وأنا أحاول جاهداً أن أكتم الضحك الذي كاد أن يداهمني:
" لا أدري يا عمي إنهم يتغنون بها في الأعراس في البلد"
فقال لي: قم ونادي معك الشباب مرة أخرى وغني لي أغنية حسين لالا التي غنيتها في عرس طه أبوطه في القبة" فسألته:" أية أغنية تعني يا عمي؟ فقال لي:" هي أغنية لم تذهب بعيداً عن طيور الجروف ولكنها أبلغ" فقلت له:" أي نعم! لقد عرفت طلبك يا عماه ويسعدني ويشرفني أن أهديها لسعادتك وكافة الحضور" فشدوت أغنية:
" كري ووا مسوري ووا بحر سموكا جويتو
شبابرين طرحقوق آبوجا دبسي فرقوق آبن أوانتو
كليين دفي ووا كافورقون كجن أوانتو
هسون نورنا كر تيقجلو ووا أُتن كريتو"
وإليكم الترجمة الفورية على الشريط:
" أقدمي إلينا وهلي علينا أيتها الدميرة
لتروي ما جف ويبس من الضفاف الظمأى
أطلي علينا أيتها الدميرة التي
يستمتع فيها الشباب بصيد الأسماك الصغيرة
أقدم أيها الموسم الذي تهاجر فيه طيور البط والأوز
وتأتي طيور الكافور
تُري! متى نتفيئ ونستظل من ظلالك الوارفة
يا نخلة العجوة (الكري) التي تنتصب شامخة في المشرع

فأعجبه كثيراً هذه الأغنية فقال لي والفرحة تغمره
:"هذه هي الأغنية المعبرة التي لها معنى"

رحم الله عمي أبو سليم رحمة واسعة
وأسكنه فسيح الجنات مع الصديقين والشهداء
وحسن أولئك رفيقاً
اللهم آمين

حسن سادة
03-07-2007, 05:02 AM
حقاً ما أحيلاها نومة الصباح تلك، حينما تتقلب فوق العنقريب متكاسلاً وأنت تعدل أطراف البطانية التي تغطي جزءاً من ساقك وتهمل الآخر فتارة تغطي رأسك بأطرافها فيكاد الحر أن يفتك بك فتكشف وجهك وقد ضقت ذرعاً لتتربص بك أسراب الذباب من ناحية أخرى فتقض مضجعك فتستيقظ من النوم منزعجاً ثم تعاود النوم كرتين ثم تغطي وجهك مجدداً وتغط في سبات عميق ولكن نومتي في ذلك اليوم بعينه وأنا جاثم وسط بقوة منزلنا لم تطل مداها كثيراً ولم يكتب لها العمر المديد حيث سمعت والدتي وهي تناديني قائلة:
" قم يا حسن وكفاك نوماً فها هما أبوك وأخوك محجوب ينتظرانك في المندرة لأمر عاجل" فنهضت متثاقلاً وهرولت إليهم دون أغسل وجهي خشية عواقب التأخير التي يمكن أن تتنظرني ووجدت والدي يجلس فوق الكرسي الذي يتوسط المندرة بينما وقف محجوب ممسكاً يديه في وقار وتبجل تماماً كرجال الشرطة حينما يكونون ماثلين أما رؤسائهم الأعلون فأيقنت أن في الأمر شيئاً جللاً فألقيت عليهما تحية الصباح فقال لي والدي وهو يمسك بطرف الكرسي:" لقد قررنا أنا وأخوك أن تقوما ببناء مرحاض في طرف المندرة" وأعقب وهو ينظر إلى محجوب ملياً:" محجوب من سيقوم بمهمة البناء وسوف تساعده أنت في جلب التراب وعجنه فقلت له :" سمعاً وطاعة يا أبي" وعندئذ دنا محجوب من والدنا وإنحنى يهمس في أذنيه شيئاً لم أدرك مغزاه جيداً ولكنني إستدركت ذلك لاحقاً حينما قال لي بنبرة آمرة:" سوف تشرعان في العمل ببركة الله في صبيحة اليوم أما أنا فسوف أذهب إلى فركة لقضاء بعض المشاوير وسوف لن ألبث طويلاً هنالك وإنصرفنا.

جاءني محجوب في ذات القبوة بينما كنت أتناول الشاي وقال لي:" أظنك قد سمعت أوامر والدنا بنفسك؟ فقلت له :" نعم وسوف أقوم بالتنفيذ فوراً ريثما أفرغ من تناول الشاي" فقال لي وهو يلوح بعصا كان قد أمسك بها : " سوف أتوجه إلى دشنة الآن وسأعود بعد ساعة وأود أن يكون التراب جاهزاً عند عودتي" فقلت له وأنا أطمئنه:" لك هذا" فمضى إلى حال سبيله وقد خلف وراءه هموم آلامها ما بتزول ما بين أرق ودموع.

وبينما كنت أهم بالخروج لجلب التراب وتنفيذ الأوامر طرق صلاح شكوش الباب حتى كلّ متنه وعندما ذهبت لأستقبله قال لي وهو يلهث بشدة:" يا حسن ماذا جلوسك والفتيان قد ساروا؟"
فقلت له مستغرباً:" أي فتيان؟ وإلى أين أزمعوا السير يا هذا؟ فأجابني وقد أمسك بطرف الباب الخشبي:" إنهم صبية تيل وقد أقاموا مسابقة أولمبية في رياضة الغطس من فوق الشجر على صفحة الماء وقد رصدوا العديد من الجوائز التقديرية للفائزين في هذه المسابقة" وأردف قائلاً :" هيا بنا الآن وسوف أسرد لك التفاصيل في الطريق" فقلت له": أعذرني فسوف لن أتمكن من إصطحابك إلى هنالك لأنني قد كلفت بمهمة جلب التراب وسوف يعود أخي محجوب من دشنة حالاً لتفقد سير العمل" فقال لي متشبثاً برأيه:" لا بل ستأتي معي" وسوف أساعدك أنا في جلب التراب في وقت لاحق فالفرصة لا تعوض أبداً: فقلت متردداً:" لا لا دعني أنا وشأني وأذهب أنت لوحدك فإنني أخشى العواقب الوخيمة التي قد تترتب على ذلك" فقال:" أنت هكذا دائماً عنيد" اليوم هي المسابقة الأخيرة والجوائز مغرية" فقلت له والخوف يتسلل إلى دواخلى :"
أوعدني بأنك ستساعدني في جلب التراب" فوعدني خيراً ومضيناً إلى حيث فعاليات المسابقة الأولمبية.


لقد أمضينا وقتاً ممتعاً في الغطس كنا قد إختلسناه عنوة من الزمن البخيل وعدت إلى البيت في منتصف النهار وما إن دخلت إلى البيت أخذت حنان تركض مسرعة صوب بيتنا الثاني ولكنني لم ألق بالاً ولم أكترث كثيراً بذلك فرحت إلى الداخل أتناول شيئاً من الطعام وفجأة تناهى إلى مسامعي طرقاً شديداً بالباب وصوت أخي محجوب يدوي وهو يتوعدني وهممت بالفرار إلا أن الوقت لم يسعفني بذلك فكان محجوب قد ولج إلى الداخل وأخذ يوسعني ضرباً مبرحاً فهربت إلى منزلنا الثاني أستنجد بالوالدة زينب وكانت قد إتخذت لها مجلساً في البقوة ورميت جثتي في أحضانها وعندئذ أخذت إخواتي البنات يهرولن إلى الغرفة المجاورة وقد قفلن عليهن الباب خشية أن تطالهن رصاصة طائشة من نيران صديقة ولكن محجوب لم يكف عن الضرب فأخذت الوالدة زينب تزجره قائلة :" يا راجل حرام عليك إنت عايز تقتل أخوك ؟ خلاص كفاية دعه وشأنه"
وتركنا محجوب وذهب والغضب يفتك به وقد تكسرت أطراف العصا الذي كان يحمله
وبينما كانت والدتي زينب تسألني عما إقترفته من إثم لكي أنال هذا الجزاء المحجف سمعنا طرقًاً في الباب وأحداً ينادي بأعلى صوته :" يا ناس جوة هوووي وينك يا بت إبراهيم"

فقد كان الطارق عمي الراحل المقيم أبو سليم فرحبت به الوالدة زينب قائلة :" فضل يا دكتور حبابك عشرة " فدخل إلينا عمي المرحوم في البقوة وما إن رآني والدموع تترقرق من أعيني ولا زالت آثار الضرب واللكم بادية على محياي قال مستغرباً :" يا بت إبراهيم ما باله حسن أفندي وقد بدا في حالة يرثى لها فروت له المعركة التي دارت رحاها قبيل هنيهة فقال وهو يهدئ من روعي ويطيب خاطري:" لا لا بصراحة يا زينب محجوب ده ما عنده حق يزعل حسن إفندي "
فقالت لي الوالدة زينب:" قوم يا حسن نادي إخواتك من جوة فذهبت إليهن وطرقت الباب لأخرجهن من عزلتهن المجيدة ولأبشرهن بأن الخطر قد زال وتبدد

ألا رحمك الله رحمة واسعة والدي أبو آدم
وأسأل الله أن يتغمدك الله بشآبيب رحمته
أيها العم العزيز أبو سليم

ومتعك الله بموفور الصحة والعافية دكتور محجوب
تُرى هل لا زلت تذكر هذه الواقعة أم أن مشاغل الحياة قد أنستك
ذكرياتنا الجميلة في كربين في زمن مضى
فقد مرت الأيام كالخيال أحلام
وإنطوت آمال كم رواها غرام
مرت ومر نعيم
كان ظني فيه يدوم لكنه مر سريع

وإلى محطة أخرى في حضرة عمي أبو سليم
طيب الله ثراه ورحمه رحمة واسعة

اللهم آمين يا رب العالمين

حسن سادة
03-07-2007, 05:09 AM
" يا بت إنتي مالك ساكتة كده!! طرشة والله شنو حكايتك؟ مية مرة أقول ليكي ناوليني الكبابي ديل"
هكذا كانت زنوبة ست الشاي تزجر إبنتها الصغيرة وهي تناولني طبق الشاي وقد وضعت فوقه حبتين من اللقيمات الساخنة فقلت لها وأنا أحاول جاهداً أن أخفف من جام غضبها:" هكذا سائر الأطفال لا يكفون عن الشقاوة واللعب هداهم الله" وإسترسلت أسائلها وأنا أنظر إلى الساعة الصدئة التي زينت معصمي: " أي ساعة تفتح أبواب مكتب الجوازات والهجرة" فأجابتني وهي منهكمة في صب الماء الحار في غلاية الشاي: " المكتب بفتح الساعة ثمانية بالضبط لكين ذي ما إنت شايف الناس بتجي من بدري عشان ما يكونوا في آخر الصفوف ويتجهجهوا.
لكين إنت عندك شنو في الجوازات يا أخوي؟ فقلت لها وأنا أمسح بقايا السكر العالق في أطراف فمي:" في الحقيقة أنا عايز أطلع لي جنسية عشان ممتحن في الشهادة الثانوية" فأخذت تدعو لي بالتوفيق والسداد وهي تطرد أسراب الذباب التي تراكمت فوق وجه إبنتها الصغيرة فتكاد لا تتبين الوجه جلياً... فوضعت طبق الشاي جانباً فوق المنضدة الخشبية ودفعت لها حق الشاي وهممت مسرعاً بالذهاب وأنا ألملم أوراقي لأتخذ لي موضعاً في هذه الصفوف المتراصة وفي طريقي إلى جموع المراجعين وجدت أحدهم وقد غط في سبات عميق تحت شجرة النيم الظليلة وقد توسد أوراقه وغطي وجهه بطاقية حمراء بالية وهو يعزف سيمفونية خالدة من الشخير وتركته جانباً ولسان حالي يردد مطلع رائعة الراحل رمضان حسن :" الزهور صاحية وإنت نايم داعبت خدك النسايم قلدت صوت الحمائم إلخ الأغنية"
وطال إنتظاري وأنا منتصب القامة أمشي ومرفوع الهامة أمشي في كفي حفنة أوراق وعلى كتفي عمامتي وأنا وسط هذا الصف الذي أخذ يدنو رويداً رويداً من الوجهة الأخيرة التي نقصدها عند منتصف النهار وعندما إقترب دوري أخذ أحد رجال الشرطة يصيح في وجهي زاجراً :" إنت يا هوي ما تخش مستني شنو؟ إلا يعزموك والله شنو!! الناس دي عايزة تجيب لينا الضغط"
فقلت له:" سمعاً وطاعة يا جنابو" وولجت المكتب المراد وأنا أتحسس أوراقي ونقودي خشية أن تكون قد طالتها يد الغدرفي الصفوف التي لبثت فيها طويلاً
ووجدت ضابطاً بهي الطلعة، وسيم المحيا ، فاره الطول، عريض المنكبين وقد جلس في منتصف المكتب يقلب كوماً متكدساً من الأوراق وحينما رآني جاثماً أمامه كالأبله داهمني بالسؤال قائلاً:" يا زول إنت ما معاك شهود !!! جايي براك مالك؟ فقلت له وأنا أرتعش خوفاً :" أنا معاي جوازات الشهود لأنهم شغالين وما بيقدرو يجوو هنا" فناولته كافة الأوراق التي كنت أتابطها فتفحصها ملياً لبرهة من الزمن ووضعها جانباً وأخذ يسألني مجدداً وهو يعدل نظارته التي كانت قد إنزلقت من العين وإستقرت فوق أرنبة الأنف:
" يا زول إنت من ياتو حتة في السودان" فقلت له:" أنا من الشمالية سعادتك وتحديداً من السكوت، من قرية سركمتو" فقال لي وهو يتفحصني ملياً:" يعني نوبي مش كدة" فقلت له :" نعم" فسألني مجدداً وقد خامرته الشكوك قليلاً:" وإيه اللي يثبت على كدة؟" وأردف قائلاً:" هل يمكن أن تعد لي من الواحد إلى العشرة بالرطانة:" فقلت له حسناً وبدأت بالعد التنازلي:" ويرا أوو تسكو كمسو دجا قرجو كلدا" وسكت برهة ثم أخذ يزجرني قائلاً :" أكمل الباقي" فقلت له محرجاً " والله يا سعادتك أنا كنت عارفهم زمان كلهم لكين نسيتهم حسع وطاروا من رأسي كلو كلو" فقال لي وهو يضرب بحافة الطاولة غاضباً:" إذن أنت لست بنوبي ولا يحزنون" فقلت له :" والله أنا نوبي مية المية" فسكت قليلاً وقال لي:" حسناً بما أنك تدعي أنك من سركمتو فهل تعرف شخصاً يُدعى محمد عثمان إدريس ؟ فأخذت أفرك رأسي وأركز في التفكير لأتعرف على إسم الشخص الذي ذكره لي ولكنني وللأسف الشديد لم أعرف شخصاً بهذا الإسم فقلت له محبطاً وقد دب اليأس في أوصالي :" لا يوجد ثمة شخص بهذا الإسم في قريتي الحبيبة سركمتو" فقال لي وهو يفتح أوراقي ويقلبها مجدداً كمن يبحث عن شيء ضائع ً" ألم أقل لك بأنك لست من سركمتو ولست نوبياً! لقد كنت محقاً فيما ذهبت إليه؟ فأخذ يصف لي محمد عثمان هذا ويشرح لي بأنه يسكن في الكلاكلة القبة وأنه يعمل في وزارة الشباب والرياضة وأن شعره أشيب إلخ وعندما إسترسل طويلاً في الوصف عرفت الشخص المعني فقلت وأنا أصيح بأعلى صوتي: وجدته وجدته" عفواً " عرفته عرفته إنه بيبي إبن خالي وهو جاري بكربين وعمه مطر وعمه الآخر علي بوستة كلاهما خلاني أيضاً"
فأخذ يضحك بأعلى صوته وهو يقول لي:" كيف لا تعرف إسم خالك يا هذا؟ أمرك عجيب والله" فقلت له وقد إنفرجت أساريري من الإرتياح:" لا أحد في سركمتو يعرفه بهذا الإسم فإنهم يطلقون عليه بيبي" وأعقبت أسأله مستفسراً:" وسعادتك مين ومن ياتو حتة في السكوت؟ فأجاب وهو يمضي على الأوراق بقلم أنيق:" أما أنا فإسمي محمد عبد الله شريف من أشقائكم بقبة سليم وطلب مني أن أبلغ بيبي عاطر التحايا وهو يشيعني إلى باب المكتب فشكرته ومضيت إلى حال سبيلي.


بعد مضي قرابة الشهر من هذه الواقعة كنا مجتمعين ذات مرة في محطة الخرطوم لوداع المسافرين إلى البلد وكنا نصطف حول القطار وكان بين الحضور عمي الراحل المقيم أبو سليم وقد كان مستغرقاً في الضحك والمرح وهو يتحفنا بقفشاته وأحاديثه الممتعة وفجأة رأيت نفس الضابط يقترب إلينا ولكنه قد إرتدى جلباباً فضفاضاً هذه المرة وترك بزته العسكريةً وأخذ عمي أبو سليم يعانقه بحرارة ويتبادل معه كلمات الود والتحايا وقدّمني إليه قائلاً:
" وها هو إبننا الغالي حسن أفندي" فقال له الرجل مبتسماً:" لقد تعارفنا من قبل بالصدفة في مكتبي حينما كان يهم بإستخراج الجنسية ولكن يا دكتور قريبك هذا لا يعرف كيف يعد إلى العشرة بالرطانة والأدهي والأنكى من ذلك أنه لا يعرف إبن سركمتو محمد عثمان إدريس"
فقال له عمي المرحوم مازحاً:" حتى أنا لا أعرفه أيضاً !! من ذا يكون هذا الشخص؟
فقلت أنا لعمي المرحوم أبو سليم:" إن سعادته يقصد إبن خالي بيبي" فقال مخاطباً الضابط:" وهل تعرف أنت محمد إبراهيم أحمد في سركمتو ؟ فقال له:" كلا لم أسمع بهذا الإسم قط"
فقال له وهو مستغرق في الضحك: "إنه الشخص الواقف أمامك أبو سليم" فضحك الرجل ملء شدقيه بصوت كاد أن يجلجل أرجاء المحطة فأعقب عمي أبو سليم قائلاً:"نحن معشر أهل سركمتو نشتهر بالألقاب حتى أن والدي رحمه الله رحمة واسعة كان يطلق عليه إبراهيم نكولا وجدي المغفور له بإذن الله كان يعرف بأحمد حبو (بكسر الحاء وضم الباء) " فأخذ الجميع مستغرقين في الضحك وتحرك القطار مطلقاً صافرته وهو يحمل على متنه جموع المسافرين
ألا رحم الله عمي أبو سليم فقد كان حاضر البديهة وطيب المعشر وكان مفعماً بالحميمية التي تغمرك كمياه الدميرة ويحيط كل من حوله بسيل غزير من الدعابة والمرح فيغسل الهموم ويمحو الأحزان أسأل الله العلي القدير أن يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.

حسن سادة
03-07-2007, 05:12 AM
ولجت سرايا المهدي يوماً وأنا أتأمل تلك التحفة المعمارية الشامخة التي ظلت تتنصب بإباء وعزة في كبد عاصمتنا القومية وقد يممت شطري صوب إدارة المحفوظات في دار الوثائق المركزية وأنا على عجالة من أمري لأقابل أخي آدم الذي ظل يعمل فيها كاتباً منذ تخرجه في الخرطوم التجارية في نهاية الستينات فجلست في كرسي كان قد وضع بجوار مكتبه وأخذ يعرّفني بزملائه حيث إقترب نحوي أحدهم وأعتقد أنه كان يدعى وداعة وأخذ يسألني ما إسمك فقلت له "محسوبك حسن" فقال لي وهو يمازحني" يا سلام عليك يا الحسن صاقعة النجم البحمي الشهادة والنضم
كل ليلة من السيف ما بيهم
الحسن صاقعة النهار
يا الجلة البارودة نار
الحسن صاقعة الصباح
يا الجلة البارودة فاح
حسن يا حسن السرور
يا ود ليلة القدر"
فأعقب يسائلني قائلاً:
"هل سبق لك أن إستمعت إلى هذه الأغنية من قبل؟"
فقلت له:" كلا فأنا لا أحفظ كثيراً من الأغنيات العربية"
وفجأة أطل علينا عمي الراحل المقيم أبو سليم وهو يبدو كالبدر التمام
وقد إرتدى بذلة سماوية اللون غاية في الرونق والأناقة
وأخذ يرحب بي بحرارة بالغة قائلاً:
" حسن أفندي هاهنا! يا مرحباً يا مرحباً" وقال يخاطب أخي آدم معاتباً:
" يا آدم كيف يكون حسن أفندي هنا في عقر دار الوثائق ولا تعطي عمك الخبر"
فأجاب وهو يناوله إضبارة: " إنه جاء على التو يا عمي وقد كنت أنوي أن أحضر بمعيته لمكتبك للسلام عليك" فقال لي وهو يربت على كتفي :" لقد وصلنا من البلد تركين معتبر يا حسن فأحرص على أن لا تفوتك هذه الفرصة الذهبية و تعال معي إلى البيت لتتناول الغداء معنا فقط سنذهب سوياً إلى أم درمان لساعة من الزمن سوف تنتظرني في الكافتيرياً قليلاً ريثما أفرغ أنا من إلقاء محاضرة في جامعة أمدرمان الإسلامية ثم نذهب سوياً إلى البيت"
فقلت له:" سمعاً وطاعة يا عمي فقد تقت أنا أيضاَ إلى تناول وجبة التركين الشهية" فمضينا سوياً في طريقنا إلى أم در وسط زحام شوارع الخرطوم وبينما كانت السيارة تمضي بنا مسرعة في منتصف شارع الجامعة جالت بخاطري رائعة المبدع الكابلي:
" هبت الخرطوم في جنح الدجى
ضمدت بالعزم هاتيك الجراح
والتقينا في طريق الجامعة
مشهد يا موطني ما أروعه"

إلى أن عرجت بنا السيارة إلى شارع النيل وسط أشجار كثيفة قد إلتفت بطرفي الشارع فتراءت أمام ناظرينا جزيرة توتي الخضراء والبنطون يتهادى في خفر العذارى وهو يحمل على متنه جموعاً من البشر فقفزت أغنية أخرى للكابلي إلى مخيلتي مجدداً
تقول كلماتها:
" يشيلك شوق وسط عينين
يوديك مقرن النيلين
يخدر فيك عقيد ياسمين
وتقوم شتلة محنة مثال
أريجها دعاش وحزمة نال
قبال توتي أم خدارًا شال
عيون أم در لبيت المال
تسامر في الغيوم أشكال
روائع تذهل المثال" إلخ الأغنية
إلى أن أخذت السيارة تقترب شيئاً فشيئاً من كوبري أم درمان
وقد إكتظ برتل من السيارات المتراصة وفجأة مرت بجانبنا
إحدى البكاسي وقد أشغل سائقها مسجل السيارة وهو يردد بصوت مدو
يجلجل الآذان:
" حليل أيامنا اللذاذ ،، طريت المطر أم رذاذ، الريد الريد يا أهل:
فقال لي وهو يغلق زجاج السيارة منزعجاً:" ما هذا الضجيج والضوضاء، أغلق زجاجك أنت أيضاًُ يا حسن فأنا لا أطيق سماع هذه الجلبة" وأردف يقول:" وبعدين نحن ما صدقنا إنو الخريف إنتهي والمطر وقف قبل أسبوعين وإتخلصنا من قرفه وجايي صاحبنا ده يقول لينا طريت المطر الرذاذ. إسمه منو ده يا حسن أفندي فقلت له وأنا أحاول أن أكتم الضحك:" إنه مجذوب أونسة يا عمي" فقال لي مازحاً :"يجب أن يسموه (مجدوب إنسىَ) مسكين عمي فلم يكن يدري وهو يقول ذلك بأن السودان كان على موعد لم يطل أمده مع كم هائل من الأغاني الهابطة على شاكلة:
" فوق الحلة ديك أنا ما بجي
الشمار كتير أنا تاني ما بجي"
أو
"تقوم بينا العربية تودينا العربية
عربيتك المرسيدس كسرت علينا الجبس"
أو
" البنسلين يا تمرجي نادوا الحكيم يا تمرجي"
وقائمة طويلة أخرى لا تنتهي من هذه النوعية من الأغنيات
ومنها الحنانة التي مشت حفيانة عندما دق الباب وجاءهم أحد
ولم تكن تقصد الخيانة "وحنانة والصفقة مالها تعبانة"
إلخ هذه الخزعبلات

وحينما إبتعدت عنا سيارة البوكسي وتوارت خلف الأنظار
وهي تسابق الريح قال لي عمي وهو يسألني:
" هل تذكر بيتكم القديم في كربين يا حسن"
فقلت له:
" نعم وأذكر أنهم كانوا يطلقون عليه "شركة" حيث كان والدي وكافة أعمامي
وأسرهم يضمهم حوش واحد وكانت جدتي عائشة خضر رحمها الله تعيش معنا"
فقال لي وهو يستعيد شريط الذكريات:" وهل تذكر شقيقتها المرحومة عشمانة؟
فقلت وأنا أستدعي أطراف الذاكرة:
" لا أذكرها جيداً فقط أستحضر بعضاً من ملامحها" وأخذ يسألني وهو يخلع سترته وقد ضاق ذرعاً بلهيب الحر وناولني إياها كي أضعها جانباً فوق المقعد الخلفي من السيارة:" أتدري يا حسن أفندي بأن والدة جداتك عائشة وعشمانه كانت إسمها سينة وهي أصلاً من كرمة النزل فقد ذهب جدنا خضر إلى هنالك وتزوج بها" فقلت له وأنا أعيد وضع السترة وقد كادت أن تنزلق من المقعد إلى أرضية السيارة:" أعتقد أن والدي قد أخبرني بذلك ذات مرة" فأعقبه بسؤال آخر في ذات الصدد:" وهل تذكر بيتكم القديم في سيانييري مسقط رأسي؟ فأخبرته بأنني كنت أذهب إلى بيتنا الثاني في سيانييري بصحبة أختي الكبرى حياة أبوها التي كانت تأتي إلى كربين لأذهب للعب معها هنالك. وعندما إقتربت السيارة إلى نهاية الكوبري أخذ يقول لي:" هل تدري أن أم درمان كان بها ترام في غابر الأزمان؟ فقلت له :" كلا لم أسمع بذلك قط" فقال لي والإبتسامة المشرقة تشع وتعلو شفتيه:" يا حسن إنت راجل فنان ومفروض تكون عارف الحكاية دي" فسألته:" وما علاقة الفن بالترام الذي تحكي عنه؟ فأجابني وهو يلقى نظرة عجلى إلى السيارات القادمة من الخلف عبر المرآة الأمامية للسيارة:" طبعاً في علاقة وثيقة... إنت ما سمعت أغنية خليل فرح اللي كان بيقول فيها :
" من علايل ابروف للمزالق
من فتيح للخور للمغالق
قدلة يا مولاي حافي حالق
بالطريق الشاقيه الترام"

فقلت له وقد شدني الإعجاب بتذوقه الفني الرفيع:
" لا يا عمي العزيز ولكنني إستمعت إلى أغنياته
الأخرى كأغنية عزة والشرف الباذخ وقسم بي محيك البدري"
وفجأة لاحت لنا الطابية المقابل النيل فأخذت أردد في سري
تلكم الرائعة الأمدرمانية الشهيرة :
" أنا ام درمان سليلة السيل قسمت الليل وبنتَ صباح
أنا الولدوني بالتهليل وهلت فوقي غابه رماح
وأنا الطابية المقابلة النيل وأنا العافية البشد الحيل
وأنا القبة بالتضوي الليل وتهدي الناس سلام وأمان

انا ام درمان نصرت الدين وكنت فداية للإسلام
روحوا حولي ناس صادقين فناهم في حياتي غرام
زانو المبدا والفكرة وخلدوا اعظم الذكري
ودخلوا المدرسة الكبري ونالوا شهادة الإيمان
...................................
انا ام درمان سقاني النيل رحيق العزة من كاسو
انا اللي مجدوا كنت دليل وراية وحده لي ناسو
انا الفي الشاطئ الغربي وموت غردون مهر حربي
انا النيل الطلب قربي ومزج
انا ام درمان انا الواحه وري البسقي والعطشان
بروقي تضوي لواحه وتهدي الساري والضهبان
وردو وشدوا فوقي الناس ونادوا بقيه الاجناس
للتعمير بقيت مقياس وللتقدير بقيت ميزان

" انا أمدرمان لسان حالك
أريتك تدري بحالي
أنا القدرت أحوالك
وحبك بدري أوحالي
انا العافية البشد الحيل
وانا القبة البتضوي الليل
وتهدى الناس سلام وامان"

يا الله ما أروع هذه القصيدة الوطنية وبغتة قطع عمي علي
حبال أفكاري وتأملاتي لأمدرمان
وهو يقول لي:" يا حسن أفندي إنت سرحت في شنو؟"
"أبداً يا عمي لا شيء بل كنت أتأمل منظر أم درمان"
فقال لي وهو يلتفت يميناً:" أنظر إلى هذا الرجل الذي
يجلس ناحية الزجاج في السيارة المجاورة"
فقلت له:" ما به يا عمي؟"
فقال لي وهو يشد على ربط العنق التي تدلت قليلاً:
"عيناه مغمضتان ولكنه يبدو كالمستيقظ"
فقلت له مستغرباً من أمر ذلك الرجل:
" وكيف للنوم أن يداعب الكرى وسط هذا الضجيج
إنه يبدو كمن يكون بين اليقظة والأحلام"
وأخيراً ودعت السيارة الكوبري وهي في طريقها إلى أم در
وبدأ الضجيج ينخفض ويتلاشى شيئاً فشيئاً
فعارضت قصيدة علي الجهمي الشهيرة:
"عـيون الـمها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
خـليلــي مـا أحـلى الـــــــهوى وأمـره
أعـرفـني بـالحلو مـنه وبـالمرَّ !"
وأنا أتمتم في سري منشداً:
"أبواق البكاسي بين أم در والجسر
جلبن الأذى من حيث أدري ولا أدري
خليلي ما أقبح الضجيج وأمرّه
أعرفني بالحلو منه وبالمر"

وأخيراً وصلنا إلى الجامعة فركن السيارة في مكان قصي وقال لي: إنتظرني هنا في الكافتيريا وسوف لا أطيل الغياب" وبعد أن مضى عمي إلى قاعة المحاضرت جلست أنا في الكافتيريا أتأمل جموع الطلبة وهم يجوبون الكافتيريا وأروقة الجامعة جيئة وذهاباً وبعد مدة طويلة وجدت أحدهم يلفت نظري ويقول لي أن أحداً يناديني فنظرت إلى اليمين ووجدت عمي يلوح لي بيمناه فذهبت إليه فقال لي معتذراً :" حقك علي يا حسن أفندي لقد تأخرت عليك بعض الشيء" فقلت له:" على العكس إنني لم أشعر بالملل بتاتاً وعادت بنا السيارة إلى شارع الملك نمر حيث كان يقيم سابقاً حيث كانت خالتي حليمة تنتظرنا بإبتسامتها المألوفة وحميميتها المعتادة وخفة روحها متعها الله بموفور الصحة والعافية وأمد في عمرها المديد بإذن الله

لكم إفتقدناك أيها العم العزيز فقد كنت لنا الغيمة التي تظللنا في عز الهجير
وكنت لنا الدفء والحنان والصدر الحنون الذي نرمي إليه أثقالنا فيحتوينا

نم قرير العين في قبرك في ظل رحمة من المولى القدير إن شاء الله

حسن سادة
03-07-2007, 05:14 AM
عماه الحبيب هأنذا أعود إلى مزارك الشريف
وحضرتك العامرة التي تتعطر بأريج حضورك الطاغي
الذي لم يعرف طريقاً إلى الأفول
نعم أيها الراحل المقيم في دواخلنا
لقد أتيتك ألملم الخطي
فى وهدة السكون والصفاء والخدر
تسلق الشعاع وجهك الجميل
كى يعانق السحر
ولم تمر غير برهة
ليدرك الشعاع انك القمر
وانك الضياء حين تستفيق غفوة الغيوم
من سحائب الضجر
وانك الزمان فى جلاله المثير
والرحيل من حدائق اللقاء للنقاء
فى خواطر البشر
ولا مفر
من الوقوف عند مدخل الوجود والعوالم الأُخر
لنحمل النسيم بيننا وسائدا من الحرير
حين يهمس الشجر
موجة تعود من عميق بحرك الجليل
تحمل السماح فوق صدرها ثمر
وتارة تغازل الحنين فى بكائها
وتبدأ السفر
لأبعد الشواطئ التى رأيت فى رمالها
تشوقا لخطوك الأمين يفتح الممر
لمدخل الحياة والصلاة للذى
بدهشة الحضور ظل ينتظر

فألتقي بك مجدداً بعد أن أنأتني عنك
مشاغل الحياة فما أحلى ساعة اللقاء
ويقيني أن للقائك بريق ساحر
وبأننى للقاك احمل
كل نجمات السماء كواكباً
تصطف حولك باحتشام
ولأجل عرشك سوف تشرق كالضحى
وترود مجدك لو يرام
وتنير كونى حين يكسوه الانين ..
والآن وحدى فى انتظارك
والصقيع يلون الاعصاب بالشوق الدفين
سكن السحاب على بيوت الشعر عندى
واهتدى نهر القصائد بالرنين
وانا وحيدا فى رمال الشط
والموج المهاجر من محيطك يحتوينى
مثل اشلاء الصفق
وشواهد الحزن المقام

فألفيت أن:
البيت بيتى
والديار إليّ تأتى
والقوافل فى الطريق بلا ربيب
فلينهض النهر الصبى
ويكتسى بالطيب والحناء
ولتثب التلال
الآن يقترب الحبيب
يناجي نفسه مردداً "
" أما زلت تملك ذاك التوهج .. في ساعة الموت والإحتضار!
أما زلت تعرف كيف يُال الذي لا يشاكل إلاّ صداك ..
وعندك منه ابتداء .. وعندك فيه انتهاء ؟
وحيداً مشيت .. تحاكي الفرادة .. تكره أنُ تتمثل غيرك
وتعشق لون التفرد والانتقاء"

نعم أيها الحبيب لم يجف بعد مداد الكلم
حاشا وكلا ،،،
ولم ولن يعرف النسيان
طريقاً إلى ذكرياتك العطرة لتتلاشى في تلافيفه العرجاء
ولا زلنا نحملك رايات خفاقة ترفرف فوق هاماتنا
وقناديلاً متقدة تضيء فضاءاتنا سحراً وألقاً
ولا زلنا نغنيك في مواويلنا وأهازيجنا الشجية
ونعزفك ألحاناً حالمة على أوتار الربابة
ولا زلنا نترحك على روحك الطاهرة
وندعو المولى عز وجل
أن يتغمدك بواسع رحمته

" أستغفر الله العظيم .. وأرتجي
عفو الإله .. لكونه غفّارا
خلق الحياة لحكمة تخفى .. كما
خلق الممات .. وقدّر الأقدارا
يارب فاقبل في الجنان محمدا
ليطوف في روضاتها .. مشتارا
وأمر سحابك ..أن يظلل قبره
ويجوده .. من سحه مدرارا "

اللهم آمين يا رب العالمين

تنويه"
(القصائد التي زينت بها المداخلة منقولة)

بدر الدين محمد
03-07-2007, 05:55 AM
في حضرة جلالك يطيب الجلوس *** مهذب امامك يكون الكلام
من منا لا يعرف القامة السامقة ابو سليم .. دار الوثائق .. ارث السودان
التقيته في لعام 91 تقريبا عندما قادته الينا في دار الاصلاح للطباعة والنشر بعض المهم المتعلقة بالطباعة تفرست في وجهه (رأيت ابي سليم) .. هو احد اعلام البلد ومن تاريخها المعاصر في القرن العشرين
ترك لنا بنيانا مؤسسا سامقا .. رحمه الله
ورحمك الله اخي وحبيبنا جميعا حسن سادة

حسن سادة
03-07-2007, 06:18 AM
عماه الحبيب أبو سليم
معذرة فقد غبت عن حضرتك لأمر كان مقضياً
ذهبت فيه لأجلب بعض الأبخرة والعطور لأعطر بها أرجاء
هذه الحضرة العامرة بمرقدك كما جلبت معي بعض الشموع
لأضعها فوق المحراب لتضئ جنبات المكان ولكنني وعندما
ولجت الحضرة ألفيت فيها بدراً مضيئاً فقلت له :
" أنت الليلة البدر"
خذوا الدنيا بأجمعها
حبيب واحد زخرُ
اذا ضاءت مطالعه
فكل سماءنا بدر
خذوا دنياكم هذي
فدنياواتنا كُثر

فحييت بدراً وقلت له:
مالو بدر السماء ما شروق
ما الحماه ومنعه المروق
خده زهري.. وبسمة البروق
وغير اشوفه انا ما بروق

شكراً لطلتك هنا أيها البدر التمام

مختار بازى
03-07-2007, 07:27 AM
يقول عمك ابو سليم حسن أفندي مأمور شندي
واقول انا حسن سادة الذي امطرت علينا بة سماوات منتديات ودمدني فهلا انتظرتني ريسما اخلص من هذ المقعد الولع بالنار (الكرسي الساخن ) حتي انهل من بحورك؟

حسن سادة
03-07-2007, 11:23 PM
العزيز مختار بازي
شكراً لمرورك بحضرة أبو سليم
فقد أكسيته ديباجة من الجمال والألق
فإنتشىنا بمقدمك وساقانا الهوى فما أبينا

" بحسبك في مسارب الروح ووين ما أروح
إنت معاي شوق وحنين وتوأم روح"

رحم الله عمنا الراحل المقيم أبو سليم

اميمه عشريه
04-07-2007, 04:48 AM
يأخذني سحر الكلام بعيدا .. اعيش هذه الذكريات وكأنني جزء منها ... وكأنها مرت بي انا .. اعجبني جدا اسلوبك القصصي البسيط الجميل وطرحك السهل الممتنع وحقيقه هذا الاعجاب هذه القامات التي تتحدث عنها وهي فعلا ارثنا من الجمال ومفخرتنا من العلم والتهذيب والعقل الزاخر بالعلم والروح المشذبه بالتواضع .. الا رحم الله ابو سليم وجزاك الله عنا كل خير يا ساده ..

ملحوظه ,, اتوق لنقل بوستك هذا للثقافي فما هو رأيك ,, لنجعل هناك نسخه فلا تضنو علينا بها .. الكلام موجه للمشرفين هنا .. وينك يا مدون ويا مدناوي ..

حسن سادة
04-07-2007, 06:15 AM
أي حظ أتاحته لي
الأقدار في هذا اليوم الميمون
فقديماً كانوا يصفونني بالسعيد ولكنني كنت لا أصدقهم
ولكنني اليوم تيقنت علم اليقين بأنهم كانوا على حق
فما أسعدنا أيها العم الراقد في مرقده تشمله شآبيب
الرحمة أبشر خيراً فقد حلقت بأرجاء حضرتنا
زنبقة أنيقة ونثرت بجناحيها أطايب الكلم
فحسبتها قد نثرت الدرر
وما أسعدني وقد نلت وسام الشرف
من لدن قامة أدبية رفيعة الطراز
تعلمنا منها كيف التأدب في الحديث
ووهبتنا الضياء والألق
لا أستطيع أن أصف مقدار إعتزازي
بهلتك هنا يا سلطانة الإبداع
أستاذتنا السامية أميمة
ولك أن تنقلي البوست أينما تشاءين
من دون أيما إسئذان

فيقيني أن حسنك أمر
فسمعاً وطاعة يا صاحبة الصون والعفاف

فحقاً
"لولا هذا الجـــدار لما عرفنا قيمة الضوء الطلــيق "

سمل الحلفاوى
17-06-2016, 06:12 AM
شكرا عمنا الغالى حسن سادة على السرد الرائع الجميل

سمل الحلفاوى
26-07-2019, 10:46 AM
ودعا أيها الرجل الجميل حسن محمد آدم بن سريكمتو الشهير بسادنتود توفي قبل قليل بدولة البحرين وداعا صاحب الحس المرهف وداعا الكاتب النوبي صاحب خواطر سركمتو لا حول ولا قوة الا بالله انا لله وانا اليه راجعون التعازي لكل الاهل في بلاد النوبة رحمة الله عليك صديقي حسن سادة