أبو الخاتم
28-02-2007, 01:37 AM
ذكرى أيام الطباشيرة :
عملت معلماً سنين عدداً ، لا زلت أحن إلى الزمان والمكان حيث كان العشق محموماً . إذ كان يتملكني حبهما حتى النخاع ؛ تركت المهنة لا بيدي ولا بودي لكنها الخطى المكتوبة ... غادرتها وقلبي أسيف وخاطري جريح ، عهدي بها طال ، وما زال حنيني لها كحنين الورقاء إلى الغصن الذي ألفته ، ودائماً أتمثل بالمثل (أدروب ولوف) تلك الأيام الخضر كانت زهو الشباب حملت فيها بين ظهراني الزملاء الأحباب ، غابت عني وجوههم لكنهم محمولون في خاطري ، لا زلت أذكرهم وأذكر تلك السنين العامرة ، كما ولا زلت أحمل أقلامي حمراء وزرقاء وخضراء ، كنت أعرف مهنتي جيداً كمعرفتي لدروب قريتي ، الشارع الذي يوصلني للمدرسة بين حواري المدينة هو الآن ذكراى وسلواي ، حيث أحمل الحنين على أطراف راحتي لتلك الأيام الحبلى بالألق والتوهج ، أحن حتى إلى غبار الطباشير والبشاورة ، إلى كل شيء كان موجوداً معها إلى البشر على الطريق المؤدي لها وإلى البشر داخل أسوار مدارسها الفراش والخالة الفراشة والجنايني ... الصغار الذين ألفوني وألفتهم داخل حجرات الدرس بدءاً بالصغير تلميذ أولى مروراً عبره بتلميذ رابعة متنقلاً حتى الصفوف العليا ، آنستهم أنسوني ، افتقدتهم هل هم افتقدوني ؟ لا أدري ... عاقبتهم نوعين (البدني واللساني) عاقبوني بالعكاس والشغب . فيهم المهمل والشقي الذي تتصيده عيون المعلم وجواسيسه (الألفوات) والعنيد متلقي الحجج ، حفزت منهم الكثير النابغ والمهتم والذكي ، بعضهم الآن صاروا رجالاً ملء السمع والبصر ، بعضهم تقلد مناصب مرموقة ، وبعضهم نال حظاً من الشهرة ، ما علق في ذاكرتي لهذه المهنة في أيامها الماضيات لا يمكن أن يمحوه الزمن الآتي .
مهنة التدريس هذه هي التي يدور حول فلكها تكوين وصقل شخصية الإنسان إعداده منذ الصغر وضعه تقويمه تقديمه للحياة وللمجتمع في عالم وزمان مليء بالمتغيرات والآراء والأفكار التي هي صنعة الإنسان ووأده معاً ، كما قال أبو الطيب :
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة السنانا
التدريس عملية ليست سهلة ولا كل من هب ودب يمكن أن يكون معلماً أنا لا أذكي نفسي لكني كنت أمارسها وأتلمس شخصيات معلمين هم قدوتي فيها كانوا أساتذتي عبر مراحلي الدراسية كنت أتلمس خطاهم أستحضر طرقهم في التعامل ، في زيهم وأناقتهم في كيفية تعاملهم معنا ، في كيفية توصيل المادة وسرد الدروس ، هذه المهنة لها متغيرات وهي متجددة بتجدد الزمان والمكان ، من صف لصف ، ومن تلميذ لآخر ، ومن عقل للثاني ، ومن درس لدرس ، وحرف لحرف .
هي مهنة صعبة ومفعمة بالتحدي ، وربما كانت أصعب المهن على الإطلاق وأكثرهاً عناءاً فهي السهل الممتنع (الرهق والإمتاع) معاً هي أكثر المهن تحدياً لأصحابها في الأداء والعطاء والانجاز توفر لصاحبها طعم ومعنى الحياة توفر له كيف يقرأ وكيف يكتشف وكيف يمارس أدوات القراءة من الحرف للسطر للورقة للكتاب ويكون مرتبطاً بها ... المعلم يجد في هذه المهنة كما أسلفت المتعة والحرية والاختيار من تهذيب نفسه مظهر ومخبر وحركة ، السير في الشارع بأدب وكأن الكل يرغب حركاته ، يلمس نتائج عمله من خلال الأطفال والناشئة الذين استطاع أن يوصل لهم الدرس بطريقة سهلة يستطيعوا فهمها .. لأنه صاحب رسالة وبذا يعرف هل وصلت الرسالة أم لا ؟
كل هذا لأجل ذاك الغرام النبيل للمهنة التي امتهنها الأنبياء عليهم السلام بدءاً بنوح وختماً بمحمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وأول ما خلق الله : الكرسي واللوح والقلم الثلاث أدوات تعليم ولحد يمكن أن يكون الكرسي مقعد سيادة وريادة وسياسة وسلطة وسطوة وربما جاه ، سيدنا يحيى كان معلماً وسيدنا إدريس أيضاً وأول ما طلب من محمد عليه أفضل الصلاة وأذكى التسليم القراءة :
يقول محمد المهدي المجذوب في هذا المنحى :
رب سبحانك مختاراً قديراً
أنت هيأت القدر
ثم أرسلت نذيراً للبشر
آية منك ونوراً
يقرأ الناس على أضوائه
فتنة الخلق وأسرار البقاء
من إله قد هدى بالقلم
علم الإنسان ما لم يعلم
ونحن في بلد أصبح من أكثر بلدان العالم نشراً واهتماماً بالتعليم رغم فقدان المقومات بدءاً بفقدانها من الدولة ممثلة في وزارتها مروراً بالمواطن البسيط الذي ظل يحلم بتحقيق النجاح لأبنائه ومتابعتهم ويبحث عن السبل التي توصلهم لجامعات السودان من ومعاهده وكلياته المتخصصة ينفق كل ما يملك من أجل التعليم .
ما كان بودي أن أفارقها لكن ... قطع عليّ خيوط الذكريات وعزلها عني سقف الغربة الذي أملته الظروف فطيفها يزورني وتنتابني منه موجات محمومة تطبطب تحن مشتاقة وتصرخ ملتاعة بالعودة إلى حيث كانت البداية مسك الطباشير وتصحيح الكراس ، وفشلت أن أجمع بين غنى النفس الذي منحني الله منه حظاً وافراً ، وبين غنى المادة التي يطول الأمل إليها لأنها أصبحت وقود الحياة التي تجرنا إلى نهاية الطريق والتي تتصارع عليها رؤوس وأيدي وتفتح لها أفواه وتنصب لها شراك ومخالب وأرجل كثير من البشر ، ولست زاهداً فيما أحل الله لي من الطيبات من الرزق هنا أو هناك .. لكن دونما إذلال أو مهانة أو استهانة .
أنا قلت أنها مهنة الرهق ولا جدال في ذلك . الانفعال مع الطالب الذي لا يستوعب أو لا يود أن يستوعب تصيبك منه حمى وأوجاع وآلام ، تصفه تارة بالحمار وأخرى بالحيوان وثالثة بالغبي و ...... إلى آخر قاموس ألفاظ الزجر ومسميات لحظة الانفعال .
وفي هذا المعنى يرد إبراهيم طوقان على شوقي ويقول :
شوقي يقول وما درى لمصيبتي قم للمعلم وفه التبجيلا
اقعد فديتك هل يكون مبجلاً من كان للنشيء الصغار خليلا
وأرى حماراً بعد ذلك كلة رفع المضاف إليه والمجرورا
زرت في إحدى إجازاتي آخر مدرسة عملت بها نظرت إلى أطلالها وتلفت الجسد ثم تلفت القلب وتمثلت بقول الأخطل الصغير :
هذه القبة كنا طائفيها والمصلين صباح ومساء
يوم طفنا وعبدنا الحسن فيها
كيف بالله رجعنا غرباء
نواصل إن شاء الله ،،،،
عملت معلماً سنين عدداً ، لا زلت أحن إلى الزمان والمكان حيث كان العشق محموماً . إذ كان يتملكني حبهما حتى النخاع ؛ تركت المهنة لا بيدي ولا بودي لكنها الخطى المكتوبة ... غادرتها وقلبي أسيف وخاطري جريح ، عهدي بها طال ، وما زال حنيني لها كحنين الورقاء إلى الغصن الذي ألفته ، ودائماً أتمثل بالمثل (أدروب ولوف) تلك الأيام الخضر كانت زهو الشباب حملت فيها بين ظهراني الزملاء الأحباب ، غابت عني وجوههم لكنهم محمولون في خاطري ، لا زلت أذكرهم وأذكر تلك السنين العامرة ، كما ولا زلت أحمل أقلامي حمراء وزرقاء وخضراء ، كنت أعرف مهنتي جيداً كمعرفتي لدروب قريتي ، الشارع الذي يوصلني للمدرسة بين حواري المدينة هو الآن ذكراى وسلواي ، حيث أحمل الحنين على أطراف راحتي لتلك الأيام الحبلى بالألق والتوهج ، أحن حتى إلى غبار الطباشير والبشاورة ، إلى كل شيء كان موجوداً معها إلى البشر على الطريق المؤدي لها وإلى البشر داخل أسوار مدارسها الفراش والخالة الفراشة والجنايني ... الصغار الذين ألفوني وألفتهم داخل حجرات الدرس بدءاً بالصغير تلميذ أولى مروراً عبره بتلميذ رابعة متنقلاً حتى الصفوف العليا ، آنستهم أنسوني ، افتقدتهم هل هم افتقدوني ؟ لا أدري ... عاقبتهم نوعين (البدني واللساني) عاقبوني بالعكاس والشغب . فيهم المهمل والشقي الذي تتصيده عيون المعلم وجواسيسه (الألفوات) والعنيد متلقي الحجج ، حفزت منهم الكثير النابغ والمهتم والذكي ، بعضهم الآن صاروا رجالاً ملء السمع والبصر ، بعضهم تقلد مناصب مرموقة ، وبعضهم نال حظاً من الشهرة ، ما علق في ذاكرتي لهذه المهنة في أيامها الماضيات لا يمكن أن يمحوه الزمن الآتي .
مهنة التدريس هذه هي التي يدور حول فلكها تكوين وصقل شخصية الإنسان إعداده منذ الصغر وضعه تقويمه تقديمه للحياة وللمجتمع في عالم وزمان مليء بالمتغيرات والآراء والأفكار التي هي صنعة الإنسان ووأده معاً ، كما قال أبو الطيب :
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة السنانا
التدريس عملية ليست سهلة ولا كل من هب ودب يمكن أن يكون معلماً أنا لا أذكي نفسي لكني كنت أمارسها وأتلمس شخصيات معلمين هم قدوتي فيها كانوا أساتذتي عبر مراحلي الدراسية كنت أتلمس خطاهم أستحضر طرقهم في التعامل ، في زيهم وأناقتهم في كيفية تعاملهم معنا ، في كيفية توصيل المادة وسرد الدروس ، هذه المهنة لها متغيرات وهي متجددة بتجدد الزمان والمكان ، من صف لصف ، ومن تلميذ لآخر ، ومن عقل للثاني ، ومن درس لدرس ، وحرف لحرف .
هي مهنة صعبة ومفعمة بالتحدي ، وربما كانت أصعب المهن على الإطلاق وأكثرهاً عناءاً فهي السهل الممتنع (الرهق والإمتاع) معاً هي أكثر المهن تحدياً لأصحابها في الأداء والعطاء والانجاز توفر لصاحبها طعم ومعنى الحياة توفر له كيف يقرأ وكيف يكتشف وكيف يمارس أدوات القراءة من الحرف للسطر للورقة للكتاب ويكون مرتبطاً بها ... المعلم يجد في هذه المهنة كما أسلفت المتعة والحرية والاختيار من تهذيب نفسه مظهر ومخبر وحركة ، السير في الشارع بأدب وكأن الكل يرغب حركاته ، يلمس نتائج عمله من خلال الأطفال والناشئة الذين استطاع أن يوصل لهم الدرس بطريقة سهلة يستطيعوا فهمها .. لأنه صاحب رسالة وبذا يعرف هل وصلت الرسالة أم لا ؟
كل هذا لأجل ذاك الغرام النبيل للمهنة التي امتهنها الأنبياء عليهم السلام بدءاً بنوح وختماً بمحمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وأول ما خلق الله : الكرسي واللوح والقلم الثلاث أدوات تعليم ولحد يمكن أن يكون الكرسي مقعد سيادة وريادة وسياسة وسلطة وسطوة وربما جاه ، سيدنا يحيى كان معلماً وسيدنا إدريس أيضاً وأول ما طلب من محمد عليه أفضل الصلاة وأذكى التسليم القراءة :
يقول محمد المهدي المجذوب في هذا المنحى :
رب سبحانك مختاراً قديراً
أنت هيأت القدر
ثم أرسلت نذيراً للبشر
آية منك ونوراً
يقرأ الناس على أضوائه
فتنة الخلق وأسرار البقاء
من إله قد هدى بالقلم
علم الإنسان ما لم يعلم
ونحن في بلد أصبح من أكثر بلدان العالم نشراً واهتماماً بالتعليم رغم فقدان المقومات بدءاً بفقدانها من الدولة ممثلة في وزارتها مروراً بالمواطن البسيط الذي ظل يحلم بتحقيق النجاح لأبنائه ومتابعتهم ويبحث عن السبل التي توصلهم لجامعات السودان من ومعاهده وكلياته المتخصصة ينفق كل ما يملك من أجل التعليم .
ما كان بودي أن أفارقها لكن ... قطع عليّ خيوط الذكريات وعزلها عني سقف الغربة الذي أملته الظروف فطيفها يزورني وتنتابني منه موجات محمومة تطبطب تحن مشتاقة وتصرخ ملتاعة بالعودة إلى حيث كانت البداية مسك الطباشير وتصحيح الكراس ، وفشلت أن أجمع بين غنى النفس الذي منحني الله منه حظاً وافراً ، وبين غنى المادة التي يطول الأمل إليها لأنها أصبحت وقود الحياة التي تجرنا إلى نهاية الطريق والتي تتصارع عليها رؤوس وأيدي وتفتح لها أفواه وتنصب لها شراك ومخالب وأرجل كثير من البشر ، ولست زاهداً فيما أحل الله لي من الطيبات من الرزق هنا أو هناك .. لكن دونما إذلال أو مهانة أو استهانة .
أنا قلت أنها مهنة الرهق ولا جدال في ذلك . الانفعال مع الطالب الذي لا يستوعب أو لا يود أن يستوعب تصيبك منه حمى وأوجاع وآلام ، تصفه تارة بالحمار وأخرى بالحيوان وثالثة بالغبي و ...... إلى آخر قاموس ألفاظ الزجر ومسميات لحظة الانفعال .
وفي هذا المعنى يرد إبراهيم طوقان على شوقي ويقول :
شوقي يقول وما درى لمصيبتي قم للمعلم وفه التبجيلا
اقعد فديتك هل يكون مبجلاً من كان للنشيء الصغار خليلا
وأرى حماراً بعد ذلك كلة رفع المضاف إليه والمجرورا
زرت في إحدى إجازاتي آخر مدرسة عملت بها نظرت إلى أطلالها وتلفت الجسد ثم تلفت القلب وتمثلت بقول الأخطل الصغير :
هذه القبة كنا طائفيها والمصلين صباح ومساء
يوم طفنا وعبدنا الحسن فيها
كيف بالله رجعنا غرباء
نواصل إن شاء الله ،،،،