المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معركة كرري .. معلومات مهمة عنها..



zaher
27-01-2007, 09:19 PM
تقديم جمع فريدريك وودز الرسائل التي كان يبعث بها المراسل الصحفي الشاب ونستون تشيرشل إلي الصحف البريطانية من السودان وجنوب أفريقيا في أخريات القرن التاسع عشر في كتاب عنونه "حروب الشاب ونستون: الرسائل الأصلية للمراسل الحربي ونستون تشيرشل 1897 – 1900) و نشر الكتاب في عام 1972 من دار فيكنق للنشر في نيويورك. السطور المترجمة هنا هي لإحدى رسائله القصيرة عقب انتهاء موقعة كرري فارجو ان يستفيد منها كل من يقراها ليعرف تضحيات الاجداد وما صنعوه لكي نعيش نحن .

معسكر أمدرمان في العاشر من سبتمبر 1898

سأفترض أنه سيثير اهتمامك – كما أثار اهتمامي – أن أصف لك ساحة القتال بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وأثق أنا تمام الثقة في أن أي وصف للمناظر الفظيعة التي أراها أمامي تختلف عن الحقيقة, تماماً كما يختلف ظل الشئ عن أصله. ومهما أوتيت من براعة الوصف ودقة النقل فلن أستطيع أن أصور لك ما أراه تصويراً يشابه الحقيقة, بيد أني أحمد الله في الوقت ذاته أنني لا أستطيع أن أنقل لك عبر هذه الرسالة ما أشمه من روائح تزكم أنفي بعفونة لا تطاق, و لكنك علي أية حال لا شك ستجدها في ما سأقصه عليك من خبر هذه المعركة وما تلى أهوالها من مشاهد بالغة الفظاعة. لا أجد في نفسي رغبة لمعاودة زيارة هذا المكان لذا لا بدَّ من أن تتحمل معي يا عزيزي القارئ وصفي لزيارتي الأولي (و الأخيرة) هذه.

دعني في البدء أصف لك شكل ساحة الحرب. يجري نهر النيل من الجنوب إلي الشمال, وتوجد علي ضفته الشمالية "زريبة" الجيش البريطاني (وهي تتجه غرباً), وعلي بعد ميل منها يقع جبل كرري بزاوية قائمة علي النيل, وعلي بعد ميل آخر إلى الشمال يوجد جبل آخر أسميهHeliograph Hill وأسمي فيما بعد جبل لانسر Lancer Hill. يمثل الجبلان والنهر ثلاث أضلاع (أبعاد) للصورة, ويمثل الضلع الرابع سهل واسع يبدو كسراب في فضاء عريض تلوح منه تلال بعيدة لا تعنينا الآن. يوجد في هذا الفضاء الواسع المترامي نحو أحد عشر ألفا من الجثث, وقريباً منها تبعثرت مئات الجثث من ضحايا هجوم الخيالة أو الطلقات الطائشة أو من الفارين من المطاردة.

في يوم الخامس من سبتمبر امتطيت صهوة جوادي برفقة لورد توليباردين Tullibadrdine وهو أحد فرسان الجيش المصري, و ذهبنا سوياً لتفقد ساحة الحرب. وكنا نسير بمحاذاة الخور و الذي كان يسقي الجيش المنتصر عصر الثاني من سبتمبر، ومنه سرنا عبر السهل الرملي إلى المنحدرات الواقعة جنوب Heliograph Hill ومنه وصلنا للمكان الذي بدأت منه الفرقة الحادية والعشرين هجومها, وهنا لاح لنا فجأة فى وسط السهل المنبسط خور عميق (يسميه الهنود نولا Nulla) وكان بمثابة مصيدة عرضها عشرون قدماً ويمتد عمقها لخمس أقدام. وفي هذا وجدنا أكثر من اثني عشر جثة لجنود الدراويش ونصف درزينة من الحمير النافقة وبعض قرب الماء المصنوعة من جلد الماعز وكمية من السروج والأسلحة المهشمة. وعلى مقربة من ذلك المكان رأينا منطقة واسعة مغطاة بالجثث. كانت هناك بعض القبور التي أقامها على عجل فيما يبدو أصدقاء للقتلى نُثرت عليها بعض الرمال البيضاء لتمييزها. وكانت تحوم حول المنطقة خيول تحررت من سروجها ولجامها. ورأينا في وسط المكان علماً ذا لونين : الأبيض والأحمر وكان مربوطاً إلى خشبة طويلة وهو يرفرف فوق قبور جنود فرقة المشاة. كان ذلك هو كل ما هناك .. بيد أن المكان اكتسب أهمية خاصة نسبة لتوافد كبار الضباط عليه من كل الفرق.

وغذذنا السير وصعدنا إلى قمة الجبل تماماً كما فعل بعض جنودنا قبل أيام ثلاث, وبدا لنا أن ذلك الموقع هو ذات المكان الذى اصطلت فيه صفوف الدراويش بنيران مدافعنا, وتناثرت في المكان جثث الدراويش المخلصين وهم بلباسهم الأبيض المرقع, وفعلت أشعة الشمس الحارقة علي مدي الأيام الثلاث فعلتها في الجثث، فانتفخت وغدت أحجامها كبيرة مرعبة تفوق ضعفي حجم الإنسان العادي. لم يعد شكل الجثة يشبه في شئ شكل الآدمي بل صار إلى القربة المتضخمة أقرب. بدت علي جثة كل درويش من الدراويش الذين لقوا حتفهم آثار ندوب فظيعة وغطت جبة الواحد منهم بقع سوداء من الدم المتيبس الذي صلته الشمس الحارقة. ضاعفت الروائح الكريهة من كآبة المنظر.

غذذنا السير مرة أخري، ولفحتنا من جهة الغرب ريح قوية حارة بالغة العفونة عبرت السهل العظيم في اتجاه النهر. و مع مسيرنا كانت الصورة الفظيعة لما حدث تتضح أكثر فأكثر. هاهنا الموقع الذي منه بدأت المدفعية في حصد جموع الدراويش المتقدمة. كانت كل قذيقة تقتل خمسة أو ستة رجال, وبقرب الزريبة (نحو 800 ياردة) بدأت فعالية الآلة الحربية Musketry في الظهور. وجدنا جثة واحدة تقريباً في كل عشر ياردات. وتجلت كثافة النيران وقوتها كأوضح ما تكون حيث حصدت بالبنادق والمكسيم الآلاف. وضح أيضاً أن المخلصين من الدراويش الشجعان لم يهابوا جحيم نيران العدو فتقدموا بالعشرات ليحصدهم الموت المحقق في دقائق. وتراكمت جثث هؤلاء بعضها فوق بعض. وكونت الجثث في بعض الأحايين طبقات ثلاث من الأشلاء الممزقة. لقد رأيت بأم عيني في مساحة لا تكاد تتعدي المائة ياردة ما يفوق الأربعمائة جثة. هل بمقدورك أن تتصور الأوضاع التي كانت عليها تلك الجثث، والتي كانت – و إلى وقت قريب- في صورتها التي خلقها ربها في أحسن تقويم؟ لا تحاول أبداً إذ أنك إن أفلحت في ذلك فستداوم علي سؤال نفسك دوما – مثلي تماماً- "هل ليّ أن أنسي أبداً؟"

لقد حاولت أن أمجد الحرب أو أن أزينها و أن أعزي نفسي في أصدقاء شجعان أعزهم كثيراً.. ماتوا من أجل قضية آمنوا بها – مهما يكن مصيرهم في العالم الأخر. عندما يقتل جندي من جنود قوة متحضرة فى الحرب فإن أجزاء جسمه تُضم – وباحترام بالغ- و تُوضع في قبر معلوم، و يصاحب ذلك قرع للطبول وعزف لموسيقي الوداع الجنائزية الحزينة، وتقال في قداسه بضع كلمات مزهوة بالنصر. و يحيط بالجثمان رفقاء السلاح والأصدقاء ولربما حسد الميت علي ما ناله من شرف الاستشهاد وعلو المكانة. كل ذلك من شأنه تخفيف وقع مصيبة الموت و فداحته. بيد أن قتلي الدراويش لم ينالوا من مثل هذا أدني نصيب. لم ينالوا شيئا من الكرامة الإنسانية التي لا ينبغي أن تهزم. و كان كل ما في الأمر فساد متعفن (Filthy corruption) لقد كان الدراويش أشجع من مشي علي الأرض. و تولد عندي إيمان راسخ بأنهم طلبوا الموت بشرف وعزة وكرامة تماماً كما فعل جنودنا. قد تكون تلك فكرة تفتقر إلي الأصالة أو قد تكون فكرة مكذوبة، بيد أنه من المؤكد أنها فكرة لم تكن لتلاقي أي استحسان عند جيشنا!
كانت الخطوط والآثار التي خلفتها المجزرة تحكي تفاصيل الأحداث. هنا كانت فرقة ماكدونلادز وهنا ثلاث بطاريات للمدفعية وعدد من مدافع المكسيم قامت بصد هجوم لجيش الخليفة. وهنا راية الخليفة السوداء التي تمت السيطرة عليها وسقط دونها مئات الرجال مكونين تلا كبيراً من الجثث المتراكمة. وهنا موضع قاتلت فيه فرقة بريطانية علي ود حلو مع عشرات الآلاف من جنوده. وهنا انطلق فرسان البقارة في هجومهم الرائع لملاقاة مصيرهم المحتوم. اختلطت أجساد فرسان الدراويش بملابسهم البيضاء مع أجساد الخيول البنية والسوداء لذا بدا هذا الجزء من الميدان أقل بياضاً مما سواه. واجه الآلاف من الدراويش نيران المدافع الحامية, وتقدموا بأقصى ما لديهم من سرعة تجاه الجيش الغازي, وكان الواحد منهم عندما يسقط من على ظهر جواده يطير للأمام مسافة بعيدة أمام الجواد. كانت الآلة الحربية تحطمهم ولكنها لا تهزمهم.
صغرت في عيني - و أنا أمام كل هذه المناظر البشعة – صورة انتصارنا الدامي و تملكني حزن مقزز كسيف. كان هذا مما يؤذي النظر ولكن كان هنالك ما هو أسوأ. بعد الموتى رأيت الجرحى. إن الجندي أو الضابط الذي يهجر ميدان القتال بعد إصابته بجراح له على الدولة دين مستحق. ففي حالة النفر (private) مثلاً فإن ذلك قد يعني معاشاً تقاعدياً, وبالنسبة للضابط فقد يعني الجرح مكافأة ضخمة ووسام وذكر حسن وبالتأكيد صعوداً في سلم الترقيات. وتظل ندبة الجرح – وإن صغر- مصدراً للزهو والفخار وعذراً للضابط في إعادة ترديد القصة! لالآم الجرح يستعمل الأطباء أدوية التخدير, ولتعجيل البرء يقف العلم وموارده على أهبة الاستعداد, بيد أن جروح الدراويش لم تجد من يداويها! كان هنالك مئات من الجرحى من الدراويش الذين تكدسوا وسط أكوام القتلى. لم يك الوضع العام يشجع على الاقتراب منهم, و تناثرت أجساد الكثيرين منهم في السهل. بدأنا في الاقتراب من بعض هؤلاء لفحص حالتهم بحذر شديد ومسدس في اليد.
كان لدى اللورد توليباردين قارورة ماء كبيرة. ترجل اللورد وطفق يسقي كل جريح بضع قطرات إلى أن نفذ ما عنده من ماء. يجب أن نتذكر أن ذلك كان بعد مرور ثلاث أيام من إنتهاء المعركة. كانت الشمس ترسل سياط أشعتها الحارقة علي تلك الأجساد البائسة دونما رحمة. كان الجرحى في حالة عطش تفوق الوصف. تمنيت لو كان لي سطل كبير من الماء البارد الصافي لأضعه أمام كل رجل مرتعش محموم مثخن بالجراح, أما ذاك أو أن يأت رجل مجهول الهوية يحمل مسدسا كثير الطلقات يطوف علي تلك الأرواح البائسة فيخلصها مما تعاني من ويلات العذاب.
كانت المناظر أمامي تبعث علي التقزز. شاهدت أربع من الجرحى يزحفون ببطء قاتل نحو شجيرة صغيرة شحيحة الظل ليلفظوا أنفساهم الأخيرة تحت ظلها. علق أحدهم خرقة بالية فوق الشوك ليزيد من مساحة الظل. نال ثلاث من أولئك الرجال مبتغاهم بينما نجا رابعهم. كان قد أصيب بطلقة أصابت رجليه الاثنين واستقرت في ركبته اليمنى مما شل حركة طرفه الأيمن تماماً. سقينا الرجل بضع قطرات من الماء ولا أظن أن بمقدورك أن تتخيل مقدار السعادة التي جلبها ذلك الكوب الصغير من الماء. فحص اللورد ركبة الرجل وفى لحظة استل سكينه ومضي يعملها في ركبة الرجل وما هي إلا لحظات حتى استل الطلقة من مكمنها. أيمكن أن تصاب بمزيد من الغثيان والقرف من أهوال تلك الساحة. لقد وجدت رجلاً جريحاً ظل يزحف نحواً من ميل خلال الأيام الثلاث التي أعقبت المعركة وتبقي له ميلان قبل أن يصل لشاطئ النيل وكان يزحف بساق واحدة, إذ كان قد فقد الأخرى في الميدان. لم أنقطع عن التعجب والحيرة وأنا أتسائل إن كان الرجل سيصل لمبتغاه. ورأيت آخر تهشمت رجلاه تماماً ولكنه ظل في وضع الجلوس يقطع نحو 400 ياردة في اليوم زحفاً. إن حيوية وقوة تحمل أولئك البؤساء غير العادية تطيل من أمد عذابهم وشقائهم. نجح أحدهم في الوصول إلى النيل ولكن فاضت روحه في ذات اللحظة علي شاطئه. دعنا نؤمل أن يكون قد ارتوى قبل موته.
كان كل ذلك بعد مرور ثلاث أيام علي انتهاء الحرب و لكن في التاسع من سبتمبر (أي بعد مرور أسبوع علي إنتهاء الحرب). كان هنالك بعض الجرحى من الذين لم يموتوا و لم يوفقوا في الزحف بعيداً وظلوا يتجرعون العذاب أفظعه. كيف بقوا على قيد الحياة طوال تلك الفترة دون ماء أو طعام؟ لقد تلقوا بعض العون من النساء ومن الذين جردوا من سلاحهم من أهالي أم درمان. قام هؤلاء بمساعدة أهاليهم ومن يعرفون من المحاربين المهزومين، بيد أن من أتى من هؤلاء الجرحى من أماكن بعيدة ولا أقرباء لهم في أمدرمان كان مصيره الموت البطئ جوعاً وعطشاً. كان الواحد منهم يحصل بالكاد علي جرعات قليلة من الماء مما تجود به أنفس المحسنين من أهالي أمدرمان وينتظر يومه في ثبات وصبر .. كان هذا من أقسى المناظر التي قدر لنا أن نشاهدها.
دعنا نؤوب للمعسكر، إذ لم تك من فائدة في البقاء في ذلك المكان اللهم إلا إذا أردت أن يتحجر قلبك وأن تتجرد و إلى الأبد من أي نوع من المشاعر الإنسانية. إنني أكتب لك الآن عن الانتقام ودفع الديون المستحقة. يقال أن الآلهة قد حرمت الانتقام على البشر وخصت به أنفسها وذلك لحلاوته المسكرة. هب أن ذلك صحيحاً, أينبغي أن نشرب كأس الانتقام الحلو المسكر حتى الثمالة!؟ أو ليست نهايته ذات طعم مستقذر؟ أو ليست خلة الإفراط مما يستهجن ويستقبح؟
وهكذا ومع مغيب الشمس وإسدال الليل لأستاره قفلنا راجعين لام درمان "موطننا" وتركنا ساحة تلك المعركة لسكانها الصامتين .. تركناهم جاثمين في الصحراء .. أولئك الفرسان المغاوير الذين استبسلوا في الدفاع عن عقيدة فاسدة وحكم ساقط ذهب ريحه .. أولئك الذين تركوا تاريخاً لم يحفظه غير من هزمهم. لم تبق من آثارهم غير بقايا عظام ستغطيها الرمال في سنوات قلائل قادمات. كنا قبل أيام ثلاث نسمع صوت هتافهم الداوي الواثق من النصر ونري برق نصال سيوفهم وأعدادهم الكثيرة. نكاد نلمس حماسهم وشراستهم. كانوا شديدي الثقة في قوتهم وفي عدالة قضيتهم وفي نصرتهم لدينهم. لم يتبق منهم الآن إلا بقايا أشلاء ممزقة وأجساد مثخنة بالجراح مبثوثة في السهل العريض.
لقد لعبت آلة الحرب الفظيعة دورها باقتدار في الحرب العلمية الحديثة ومزقت جيش الدراويش شر ممزق, وكان هذا منتظراً و متصوراً. الزمن يضحك/ يسخر من العلم والعلم يضحك من القوة وسيأتي يوم يكتسح الزمن فيه القوة والعلم معاً. وسيأتي يوم تدخل فيه وسائل الري الحديثة لتغير وجه أمدرمان البائس إلى حدائق ذات بهجة وستصبح قطاطي أمدرمان الطينية القميئة يوماً ما مساكن جميلة ومسارح ومدارس، وسيأتي يوم يشار فيه إلى ساحة تلك الحرب بلافتة تقول :" هنا كانت في زمان مضي حرب" .. وهكذا ستخلد ذكري تلك الحرب.

6/ 10/ 1898

وكرري تحدث عن رجال كالاسود الضارية ... فلهم منا كل المجد .. ولهم منا الدعاء ...
ولهم منا وقف كل الحروب ونبذها ... ولهم منا رفع رؤسنا عاليا ..لاني ... سوداني

نزار حسن محمد
28-01-2007, 01:02 AM
وكرري تحدث عن رجال كالاسود الضارية ... فلهم منا كل المجد .. ولهم منا الدعاء ...
ولهم منا وقف كل الحروب ونبذها ... ولهم منا رفع رؤسنا عاليا ..لاني ... سوداني

مشكور اخى زهير على هذا السرد التاريخى

zaher
04-04-2007, 12:57 AM
ولنا في تاريخنا كثير ليس موثقا ....

ارجو من كل مهتم بمثل هذه المواضيع ويعثر على وثائق مثل هذه ان يضعها لنا هنا حتى تعم الفائدة للجميع