الجندي المجهول
04-05-2006, 12:12 AM
صراع الحضارات - الأزمة وما حولها حتى الرسوم الدانماركية
قبل المجازفة بإبداء بعض الملاحظات السريعة عن موضوع صراع الحضارات - أو حوارها كما يريد بعض ذوى النوايا الطيبة أو يأملون - فإنى أريد الإشارة إلى تمهيد ملخصه أن تاريخ الفعل الإنسانى يعرف ثلاثة مسارات رئيسية:
- مسار الفكر - الثقافة - الحضارة.
- مسار الإنتاج - التراكم - الثروة.
- مسار السيطرة - الصراع - السلاح.
ومع أن هناك وصلات ظاهرة وغير ظاهرة بين المسارات الثلاثة فإنه يمكن التمييز بينها، ويمكن التركيز ولو للحظة على أحدها بالتخصيص، وذلك ما أفعله الآن.
ومن هذا المنطق فإننى سوف أقصر ملاحظاتى هنا على المسار الأول وهو موضوع ثار الجدل حوله وطال - ولا يزال.
1- إننى قريب من مدرسة ترجح أنه ليس هناك ما يمكن أن نسميه صراع حضارات - أو حوار حضارات- والسبب أن هناك حضارة إنسانية واحدة صبت فيها شعوب وأمم وأقاليم الدنيا، على طول التاريخ أفضل ما توصلت له من رقى وتقدم.
وإذا اعتبرت - بقصد مزيد من التحديد- أن ثقافة أى مجتمع هى مجمل ما تحصل عليه - فى ظروف موقعه، وعلى مسار تاريخه، من خبرات ومعارف وفنون- فإننا بنفس المقدار نستطيع القول بأن الحضارة هى أرفع وأنفع ما وضعته ثقافات الشعوب والأمم والأقاليم فى المجمع العالمى للثقافات المتنوعة، والذى هو محيط الحضارة الإنسانية.
والذى حدث على طول التاريخ أن ما حققته المجتمعات المتعددة من ثقافات متنوعة انتقل بالاختيار المفتوح وبالطلب الحر - عندما بان نفعه وتأكدت قيمته - إلى الأقاليم المحيطة بموطنه وهناك تفاعل مع ما وجد، ثم راح ما تجمع فى الأقاليم ينتشر - بثبوت نفعه وصلاحيته - إلى أفق أوسع وأبعد، ومرة ثانية فعل وتفاعل، ثم تحول مجمع الثقافات إلى محيط حضارى لا يحتاج إلى إلحاح أو إلى سلاح، لأن شراكة الجميع فيه، وحاجة الكل إليه، تجعله ثروة بالمشاع بينهم وادخارا لطموحاتهم عندما تحركها هممهم.
2- والمعنى أن المجتمعات الإنسانية كل منها حيث هى - أنتجت ثقافة حَوت مجمل خبراتها ومعارفها وفنونها، ثم إن ما كان صالحا، مقبولا، ونافعا من هذه الثقافة انتقل منها إلى غيرها، أى من البلدان إلى الأقاليم - ومن الأقاليم إلى الدنيا المفتوحة. وإذا حاولنا أن نبحث عن نموذج من التاريخ الطويل للإنسانية، فإن الزراعة قد تكون النموذج الأول والأوضح.
فعندما توصلت بعض المجتمعات فى الشرق الأدنى إلى تجربة ومعرفة وكشف أسرار الزراعة وأساليبها، فقد تكونت فى هذه المجتمعات ثقافة خصبة، وعندما عرفت مجتمعات أخرى شرقا وغربا - ورأت بالاتصال - وجربت واستوعبت - فإن ثقافة الزراعة أصبحت حضارة إنسانية مفتوحة، لا تحتاج إلى صراع ولا إقناع.
فحضارة الزراعة على طول العالم وعرضه، وعلى امتداد التاريخ وتدفقه، تعرفت على بناء البيت والمخزن، واستعملت الفأس والمحراث، واكتشفت الطنبور والساقية، وحفظت البذور وقوتها، وسمدت الأرض وأثرتها، وأتقنت هندسة شق القنوات، ومنها إلى وسائل رفع المياه وتخزينها من سد مأرب فى اليمن إلى سد أسوان العالى فى مصر.
3- وما فعلته ثقافات - وحضارة عصر الزراعة فى البلدان والأقاليم وما وراءها تكرر فى مجالات أخرى أولها التجارة وبعدها التفكير الحر والتعبير الخلاق بالكلمة واللون والصوت، حتى جاء أكبر المجالات وأخطرها وهو مجال الصناعة، ومجال الاتصال والمواصلات وبه تحققت إمكانيات تكنولوجية عالمية بازغة يبرز فيها من يقدر عليها، خصوصا أولئك الذين يستطيعون الربط الخلاق بين النظرية والتطبيق. إن تلك الحركة شملت بالتوازى تنظيم الحقوق وإدارة شئون المجتمعات، حتى استقرت وترسخت فكرة وروح وحكم القانون، وتوالت عصور الانتشار الفكرى من الكلمة المطبوعة إلى الصورة المرئية، ومن السماوات المفتوحة إلى المعلومات المتاحة، وكل ذلك بالتواصل والتفاعل دون حاجة إلى إلحاح يقنع أو سلاح يفرض، طالما أن المجتمعات البشرية لديها ذلك التشوق والتسابق نحو مطالب الرقى والتقدم.
وكذلك راح تدفق الثقافات المتنوعة يفيض على المجمع الحضارى يملؤه ويحركه وينشط فعله وتفاعلاته.
4- وإذا جرى تشبيه هذه الحركة الإنسانية بواقع ما جرى ويجرى فى الطبيعة ذاتها، فربما أمكن القول إن الثقافات كانت بمثابة ينابيع وجداول وأنهار جرت فيها المياه وتدفقت وفاضت على جوارها الإقليمى - ثم إن هذا الجوار أخذ من هذا الفيض ما كانت مجتمعاته مستعدة لاستعماله لزيادة منافعها وتحقيق أقصى الممكن من مطالبها - ثم إن هذا البحر الذى تلاقى فيه الفيض الإنسانى للثقافات المحلية والإقليمية أكمل زحفه وانتشاره حتى وصل إلى المحيط المفتوح أمام كل شراع وأمام أى ملاح لديه الجسارة ومعه خريطة وبوصلة.
وأليس صحيحا أن الجغرافيا هى أم التاريخ وحاضنته ومدرسته وكتابه ومعمله؟!.
معنى ذلك أن ينابيع الثقافات الوطنية التى تدفقت فى جداول وأفرع وأنهار، وتلاقت فى أقاليمها، وصنعت ما يمكن تسميته ببحار أو أحواض حضارية اندفعت كما تفعل البحار حين ترتفع مناسيبها وحين تجد معابرها - إلى المحيط الأعظم الذى يحيط بالقارات كلها، وذلك فعل طبيعى - يقول للجميع بالجغرافيا إنه عالم واحد، كما يقول للجميع بالتاريخ إنها تجربة مشتركة لا يحق لطرف أن يحتكر فضاءها، كما لا يجوز لطرف أن يتنازل عن نصيبه فيها.
على أن ذلك لم يمنع بعض البحار أن تبقى مغلقة على نفسها، وقد تعطل بعضها ضحلا أو راكدا فى مكانه، كما أن بعضها الآخر بإتمام انغلاقه عن غيره تحول - مثل البحر الميت- إلى بؤرة ملوحة أو مرارة، معزولة فى موقعها، محكوم عليها بالانزواء والفناء.
5- وإذا أردنا دليلا على شراكة الحضارة فى مجال آخر لا يحتمل كثرة الظنون فأمامنا مجال العلم، فالعلم سياق واحد ملأته ينابيع وموارد ومصادر متعددة- خطوة موصولة بخطوة موصولة - دون علم وطنى يرتفع أو جواز سفر يسمح أو يحجز - بمعنى أنه ليست هناك مثلا فيزياء أو كيمياء أو فلك أو رياضيات أوروبية صرف- أو صينية صرف - أو هندية صرف - أو عربية إسلامية صرف، وإنما هناك علم واحد صب فيه الجميع من كل نبع ومن كل نهر ومن كل بحر حتى وصل الفيض إلى المحيط المشترك الأكبر، وهناك حافظت على عالميته وفتحتها لكل من يرغب ويستطيع - أدوات للاقتراب والتناول تنظمها شروط متعالية على كل الأجناس وفوق كل الأقاليم.
-أليس لافتا للنظر أن ما جرى فى حضارة الزراعة - وحضارة العلوم - وحضارة الصناعة من تأثيرات تحولت بسرعة إلى أساليب حياة كل يوم وحتى إلى مذاقها.
فعندما وضع كبير خدم اللورد ساندويتش الاسكتلندى شريحة لحم بين طبقتين من الخبز اختصارا لوقت سيده أثناء رحلة مفاجئة - عرف العالم كله وجبة الساندويتش، ولم يتبق للتاريخ من النبيل الاسكتلندى وكبير خدمه سوى اسمه واصلا إلى العصور الحديثة، حتى دون معرفة بأصل الحكاية.
وعندما عثر الرحالة الإيطالى ماركو بولو على عجائن المكرونة وعاد بها إلى إيطاليا، تحولت بسرعة إلى فن إيطالى ثم إلى مطبخ عالمي.
ثم تكرر نفس الشيء مع الوجبات الأمريكية المشهورة التى هى الآن أشهر طعام فى العصر الأمريكي-.
6- وإذا اعتمدنا هذه الصور فنحن أمام حضارة إنسانية واحدة شاركت فى صنعها وفى فيضها وفى حركتها ثقافات متعددة المنابع والموارد والمصادر، فكلها أعطت وزودت، وكلها أضافت وزادت، وكلها أغنت وأثرت، وبالتالى فإنها من العمق إلى السطح شراكة إنسانية حقيقية وكاملة.
لكن المحاولات الإمبراطورية للاستيلاء على الحضارة الإنسانية ونسبتها إلى قوة بعينها - ظاهرة معروفة وليست جديدة، فمن قبل ادعت إمبراطوريات أوروبا فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أنها تقوم باستعمار آسيا وأفريقيا تحملا لعبء الرجل الأبيض The white manصs burden.
فهذا الرجل الأبيض - على حد ادعاء كيبلنج- مكلف برسالة اقتياد للشعوب السوداء والسمراء ولو بالقيود والسلاسل من صحارى وغابات التخلف إلى شواطئ المحيط الحضارى الإنسانى الجامع.
وكان القول فى زمانه ادعاءً تبشيريا يتفق مع مناخ عصره.
لكن الإمبراطورية الأمريكية عندما جاء عصرها بالغت وتجاوزت بكثير خصوصا بعد أن تحولت إلى قوة فائقة Hyper Power غداة نشوة النصر المشهود فى الحرب الباردة.
وقد خطر لها فى هذا السياق أن مطالب السيطرة والصراع والسلاح تسمح لها بادعاء ملكية الحضارة ووراثتها على نحو قطعى - ونهائي.
وليس مصادفة - دون أن يكون بالضرورة مؤامرة - أن حكاية صراع الحضارات - وحكاية نهاية التاريخ - توافق ظهورها مع الغلبة الإمبراطورية فى الحرب الباردة، دون تنبه كاف -عندهم كثيرا- وعند غيرهم أحيانا - إلى أن وهم القوة لا يعطى أصحابه احتكارا، ولا يسلب غيرهم حقا، فى الشراكة الإنسانية الأوسع، لأن هذه الشراكة فى الحضارة أقوى من السلاح ومن الإلحاح، حتى إذا اجتمعا معا فى مشروع إمبراطورى يملك أكبر ترسانة نووية جنبا إلى جنب مع أوسع شبكة للمعلومات الإنترنت.
والواقع أنه عندما خرجت الإمبراطورية الأمريكية غالبة فى صراع الحرب الباردة - وكان ذلك قبل مفاجأة 11 سبتمبر 2001 بكثير، فإنها رسمت لاستراتيجية زمانها الجديد عدة خطوط - فهي:
- تريد أن تحتفظ بتقدمها وتمنع ظهور منافس خطر عليها كما حدث مع كل الإمبراطوريات وذلك بالاستيلاء على الحضارة الإنسانية نهاية التاريخ.
- وتريد أن تخفف من مسئوليتها تجاه الأقاليم التى تعثر فيضها وجفت منابعها، فهذه بالتخلف أصبحت عبئا على المحيط الحضاري، تريد أن تأخذ منه إلى الأبد بينما عطاؤها توقف من زمن صراع الحضارات.
- ثم إن الإمبراطورية تريد أن تؤكد سطوتها الأبدية بإظهار تفوقها وخصوصا السلاح، وهكذا وقعت استعراضات التفرد الأمريكى فى كل الميادين ابتداءً من استثناء كل أمريكى من أى مساءلة دولية مهما فعل - وإلى تميز التجارة الأمريكية فى كل الأسواق بصرف النظر عن حرية السوق - وإلى استئثار بحقوق الملكية العلمية والفنية فى كثير مما كان متاحا فى مجمع الحضارة الأكبر قبل أن تظهر الدولة الأمريكية من الأصل - ثم إنها لا تقبل أن تردع نفسها عن تلويث البيئة تملصا من قيود تفرض على غيرها حرصا على كوكب الأرض نفسه - كما أنها تطلب احتكار موارد الطاقة وليس مجرد النهم فى استهلاكها - ثم زاد أن الإمبراطورية الأمريكية تريد الآن أن تستولى بوضع اليد على الحضارة الإنسانية بأسرها لتختم طابعها على المحيط بأسره تأكيدا نهائيا وتقنينا شرعيا لتفوق أبدى خطط المحافظين الجدد.
- وضمن هذه المحاولة لجأت الإمبراطورية إلى حروب رخيصة تستغل بطش الصدمة والرعب Shock &Awe فى مناطق ضعيفة ورخوة بأقل التكاليف، كى تظهر هول الجحيم الذى أعدته لمن يعصي، وكذلك تحولت أفغانستان وتحول العراق إلى ساحات دم ولهب - مأساتها أنها لا تعرف فى معظم الأحيان هدفا واضحا أو خطة إستراتيجية مدروسة وعلى أى حال فقد جاءت النتائج الواقعة مغايرة للمطامع والغزوات.
7- وإذا عُدت الآن إلى مقولة صراع الحضارات أو حوارها فربما تكون النقطة الجوهرية أنه يتحتم التفرقة باستمرار بين شراكة الحضارة وبين صراعات القوة، فالقوة ميدان تصويب وضرب نار، والحضارة شراكة ومحيط أنوار.
وهنا فإن حقائق الحضارة تمنع الاستيلاء عليها لحساب أى طرف، كما ترفض التنازل عن الحق فيها تحت أى وصف.
8- يترتب على التمسك بالحق الحضارى ورفض أى استدراج إلى الإزاحة أو العزل بمقولات الصراع أو الحوار - لابد أن يصاحبه إدراك وتصميم يصون هذا الحق عن التورط فى صدام أعمى أو فى جدل عقيم - وذلك وضع يشبه إلى حد ما وضع من يتمسك بحقه فى أرضه.
- إذا أراد سندا لهذا الحق بوسائل الصراع، فلابد له من القدرة تعزز الحق.
- وإذا أراد سندا لهذا الحق ببلاغة الإقناع، فإن سحر الكلمة لا يغنى عن كفاءة الفعل، والقدرة على الفعل هنا ليست السلاح، بل لعل السلاح آخر وسائلها، وإنما وسائل القدرة هى بذاتها وسائل العصر.
وقد يكون السياق فى هذا الموضع مناسبا لإشارة نحو ما تستطيع القدرة أن تحققه حتى فى مواجهة التحيزات الصارخة، وفيها ما نسميه ازدواجية المعايير فى السياسة الدولية.
-قبل سنوات وحين كان لهذا الإقليم العربى الإسلامى بعض القدرة - فإنه تمكن من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يعتبر الصهيونية نوعا من أنواع العنصرية - لكنه بعد سنوات وعندما حل العجز محل القدرة سقط ذلك القرار، وكان العرب المسلمون بين الذين صوتوا لإسقاطه، ثم صدر بدلا منه قرار يعتبر مناقشة المحرقة اليهودية سواء فى وقائعها أو فى أعداد ضحاياها جريمة إنسانية تستوجب العقاب.
ولم يكن القرار الأول مجرد ازدواجية معايير لصالح طرف، ولا كان القرار الثانى مجرد ازدواجية معايير لصالح الطرف الآخر، لكنه فى الحالتين كان حركة موازين ترجح أو تخف وفق ما يسندها من إرادة الفعل - وقدرة الفعل!-.
ويستلفت النظر أن الثقافات الصينية والهندوكية لم تهدر وقتا غاليا فى حكاية صراع أو حوار الحضارات، ففى هذه الثقافات الآسيوية كانوا على يقين من أنهم شركاء بثقافاتهم فى المحيط الواسع، وبهذا اليقين أدركوا أن وسيلتهم الرئيسية لتحقيق أهليتهم فى حق الشراكة - أن يبنوا من وسائل القدرة على الفعل ما يمنع مهانة الظلم، أو استعلاء الاحتكار، أو الاجتراء على نفى شراكة الآخرين.
ومن المدهش أن ثقافات الصين والهند والتى كانت الأبعد بالمسافات عن البحار المركزية الأولى للتدفق الثقافى إلى المنبع وإلى البحر وإلى المحيط - أظهرت تمسكا وثيقا بحقها، بينما تخبطت ووهنت ثقافات الشرق الأدنى وهى الأقرب والأكثر إسهاما فى الكل الحضارى المشترك، فهى التى أعطته الأديان السماوية كلها - وبالذات المسيحية - التى نسمع منهم الآن أنها الدعوى الحضارية الأولى لمراكز الغلبة الراهنة.
-أليس لافتا للنظر مرة ثانية أن مذاق طعام حوض الحضارة الصينى وجد طريقه ليصبح انتشارا عالميا واسعا، وأخرج تنويعات مختلفة على مذاقه الأصلى يابانية وتايلاندية وفيتنامية.
كما أخرج حوض الحضارة الهندى بدوره مذاقه ولكن بأسلوب آخر - فإذا كانت إنجلترا قد احتلت الهند بجيوشها قرنين من الزمان، فإن المذاق الهندى يحتل بريطانيا إلى آخر الزمان بمشروب الشاى ومسحوق الكاري-.
9- ومن سوء الحظ أن الثقافة العربية - الإسلامية المعاصرة بتأثير ما ترسب فيها من شوائب وعوالق، وما أصابها من ضعف ووهن، وما لحق أصحابها من عقد بسبب طول مقاساة غلبة الفاتحين وسيطرة المستبدين - كانت مهيأة على نحو ما لمحاولة الإقصاء والاستبعاد من شراكة الحضارة.
وحين قلنا بصراع الحضارات - فقد اعترفنا بالعزلة.
وحين دعينا - أو دعونا للحوار- فقد ذهبنا لما يشبه طلب إذن باللجوء من متظلم إلى متحكم، ولم ندرك أن الحقوق ملكية أصحابها إذا استطاعوا إثبات جدارتهم بها، وليس تواضع الآخرين للسماح لهم ببعضها، ثم إن كل حوار على الحوار بينهم وبين غيرهم لا نهاية له، خصوصا إذا وقع - وهو يوشك أن يقع الآن - وانزلقت العلاقات بين الأطراف إلى صراعات سياسية تتحول بسرعة إلى حروب هويات دينية وعرقية، فعند هذه الدرجة أى كلام يكون بين غرباء أو بين أعداء، عداوة لا تحتمل غير انتصار طرف وهزيمة آخر!- وهنا يموت الحوار أو ينتحر مهما قلنا ومهما قالوا.
-أليس لافتا للنظر مرة ثالثة أن الحوض الحضارى لثقافات الشرق الأدنى لم يستطع أن ينشر مذاقا مميزا له خارج إقليمه، ولعل ما عنده تعرض لتلبك غذائي، كما تعطلت صلته بالحضارة بسبب نوع آخر من التلبك الناشئ من تخمة التيارات المتضاربة التى أصابت المنطقة ولوثتها!-.
10- والغريب أننا حين قبلنا فكرة صراع الحضارات أو حتى حوار الحضارات بالمنطق الذى قُدم لنا - فإننا سلمنا بالقسمة، أى أننا تنازلنا عن الشراكة من أول لحظة. ودخلنا فى حوزة الآخرين وعلى جدول أعمالهم.
ربما كان الأولى أن نبدأ حوارا مع النفس نعرف فيه بالضبط من نحن؟ - وأين نحن؟ - وماذا نريد؟
وكان مثل ذلك الحوار مع النفس كفيلا بتأكيد عدة مسائل:
- أولها: الوعى بالحق فى شراكة الحضارة دون إقصاء أو استبعاد.
- وثانيها: الجدارة بهذا الحق عن طريق دعمه بقيم العصر وأولها روح الحرية والعلم والقانون، دون العودة إلى الماضى والبحث فى كهوف التراث المهجورة وليس فى حدائقه الزاهرة عن سبب للتقوقع بعيدا عن قيم العصر بدعوى الخصوصية، وهو نوع من الهرب مقصود إذ ليس هناك تصادم بين التنوع المحلى للثقافات وبين المشترك فى الحضارة الإنسانية - بل هناك تفاعل وتدفق مساير بالطبيعة لحركة التاريخ.
- وثالثها: أننا فى حاجة إلى فهم ودرس واستيعاب وحوار متواصل مع الدنيا كلها - ولكن فى قضايا ومعضلات الرقى والتقدم، فهناك طلبنا وهو أولى من تحرير عريضة لطلب عضوية فى نادٍ لابد أن يقبل بنا مجلس إدارته وعن طريق قبول التماسنا أو التحفظ عليه بكرات بيضاء أو كرات سوداء، فنحن هناك فى ذلك النادى الحضارى من لحظة تأسيسه وضمن أوائل المؤسسين، لكنها عضوية غير عاملة - خاملة إذا جاز التعبير.
- ورابعها: تجنب فخاخ الاستدراج والاستنزاف بسبب ما يفعله آخرون من أصحاب الغرض فى الإقصاء والاستبعاد، هؤلاء الذين تنبهوا بسرعة إلى ما لحق بالعقلية العربية الإسلامية جراء عصور القهر والظلام، فإذا هم يحاولون تثبيت الانكسار وتعميقه فى العقل وفى الإرادة لدى العرب والمسلمين، والسبيل إلى ذلك استثارتهم بين الحين والآخر بما يدفعهم أكثر وأكثر إلى عزلة البحر الميت وملوحة مياهه ومرارتها.
لقد اكتشفوا أنه يكفيهم أن يلمسوا الثقافة العربية الإسلامية فى عزيز عليها، فإذا هى تستثار وتغضب- ثم تتراجع وتتباعد بحيث تعزل نفسها وتتنازل أكثر وأكثر عن نصيبها فى شراكة الحضارة.
والمحزن أن هناك من اعتدى على المقدسات العربية عملا - وليس لمسا- حين سيطر على المسجد الأقصى فى القدس. وفى نفس الاتجاه فإن ذات الطرف رسم خنزيرا وكتب عليه اسم الرسول الأعز الأكرم.
وهناك - غيره - قام بتوظيف الدين الإسلامى - قديمه وجديده - فى حرب باردة عليه - ساخنة على شباب عربى ومسلم فى أفغانستان - ثم أمسك فى النهاية بمن حاربوا لحسابه ووضعهم وراء القضبان فى جوانتانامو، ثم داس بالأقدام على كتابهم الكريم ومزق صفحاته ورماها فى المرحاض أمام عيون الجميع فى المعسكرات وخارجها.
وفى هذا كله لم يغضب أحد - بل تستر كثيرون.
ولكننا مع ذلك رحنا - نحن الذين لم نغضب من الفعل - نثور باللمس كأننا كنا نبحث عن أهداف سهلة رخيصة.
حدث ذلك سابقا فى تجربة قريبة - هى رواية آيات شيطانية.
نتيجة الثورة والغضب - زادت شهرة كاتبها.
وتكرر على نطاق أوسع فى تجربة أخيرة - هى الرسوم الدنماركية.
نتيجة الثورة والغضب - تكرار نشر الرسوم فى عدد من عواصم الدنيا، وكذلك سمع الناس عن رساميها وناشريها لأول مرة فى حياتهم.
كأن كاتبا - حتى لو كان اسمه سلمان رشدى - يستطيع أن يعتدى على الإسلام، أو كأن رسام خطوط لا يكاد الناس يعرفون اسمه فى صحيفة مجهولة يستطيع إهانة الرسول الأعز والأكرم - أو كأن وزيرا إيطاليا شديد الحمق يستطيع أن يشتم الإسلام لأنه ارتدى قميصا عليه رسوم بالغة الانحطاط عديمة القيمة!
لكنهم اكتشفوا وجربوا كيف يحركون من ردود الفعل ما يستثيره الضعف ولا تأبه به القوة.
وفى المحصلة فإننا نجد أنفسنا بالواقع وبسهولة شديدة - محزنة فى نفس الوقت - نساعد على تحويل صراعات سياسية إلى حروب هويات حضارية تخرج غاضبة منسحبة من شراكة التقدم الإنسانى الجامع والشامل مع أى استفزاز - يتحول بالإثارة إلى فتنة، ويتحول بالفتنة إلى حرب، ويتحول بالحرب إلى قطيعة، ويتحول بالقطيعة إلى حصار للذات، ومن سوء الحظ أن حكومات عربية إسلامية - بوعى أو بغير وعى - تصرفت حيال الفتنة بقدر كبير من قصر النظر فى إدارة الأزمات إن لم يكن بقدر كبير من سوء النية بمحاولة استغلال الفتنة للإلهاء والتغييب.
وقد أضيف لاستكمال الرؤية والرأى - أن رغبة الاستغلال لم تقتصر على الحكومات، وإنما تعدتها إلى مؤسسات وأفراد، بادعاء أن الترياق الشافى من الفتن يتحقق بالوفود تذهب والوفود تجيء، وبالمؤتمرات تعقد والمؤتمرات تنفض، وبالأوراق تُقرأ ثم بالأوراق تُنسى لكى يجرى تدويرها وتعود إلى إنتاج نفسها من جديد.
تلك كلها باختصار وساوس تجمح بأصحابها إلى حيث لا يريدون ولا يقصدون، فإذا هى عودة من شواطئ المحيط الإنسانى الواسع وحيويته الخلاقة إلى دروب وعرة موحلة تؤدى إلى البحر الميت وموجه الراكد وأملاحه الزائدة!!
بغض النظر عن وجهة نظر كاتب المقال وهو الاستاذ حسنين هيكل نحن كعرب وكمسلمين لا نساوم ولن نرضي باي اساءة الي النبي الكريم وسنقف بشدة وارواحانا فداك يا رسول الله وصلي الله وسلم علي سيدنا محمد النبي الكريم
وياريت نكثر من الصلاة علي الرسول (ص) .....
قبل المجازفة بإبداء بعض الملاحظات السريعة عن موضوع صراع الحضارات - أو حوارها كما يريد بعض ذوى النوايا الطيبة أو يأملون - فإنى أريد الإشارة إلى تمهيد ملخصه أن تاريخ الفعل الإنسانى يعرف ثلاثة مسارات رئيسية:
- مسار الفكر - الثقافة - الحضارة.
- مسار الإنتاج - التراكم - الثروة.
- مسار السيطرة - الصراع - السلاح.
ومع أن هناك وصلات ظاهرة وغير ظاهرة بين المسارات الثلاثة فإنه يمكن التمييز بينها، ويمكن التركيز ولو للحظة على أحدها بالتخصيص، وذلك ما أفعله الآن.
ومن هذا المنطق فإننى سوف أقصر ملاحظاتى هنا على المسار الأول وهو موضوع ثار الجدل حوله وطال - ولا يزال.
1- إننى قريب من مدرسة ترجح أنه ليس هناك ما يمكن أن نسميه صراع حضارات - أو حوار حضارات- والسبب أن هناك حضارة إنسانية واحدة صبت فيها شعوب وأمم وأقاليم الدنيا، على طول التاريخ أفضل ما توصلت له من رقى وتقدم.
وإذا اعتبرت - بقصد مزيد من التحديد- أن ثقافة أى مجتمع هى مجمل ما تحصل عليه - فى ظروف موقعه، وعلى مسار تاريخه، من خبرات ومعارف وفنون- فإننا بنفس المقدار نستطيع القول بأن الحضارة هى أرفع وأنفع ما وضعته ثقافات الشعوب والأمم والأقاليم فى المجمع العالمى للثقافات المتنوعة، والذى هو محيط الحضارة الإنسانية.
والذى حدث على طول التاريخ أن ما حققته المجتمعات المتعددة من ثقافات متنوعة انتقل بالاختيار المفتوح وبالطلب الحر - عندما بان نفعه وتأكدت قيمته - إلى الأقاليم المحيطة بموطنه وهناك تفاعل مع ما وجد، ثم راح ما تجمع فى الأقاليم ينتشر - بثبوت نفعه وصلاحيته - إلى أفق أوسع وأبعد، ومرة ثانية فعل وتفاعل، ثم تحول مجمع الثقافات إلى محيط حضارى لا يحتاج إلى إلحاح أو إلى سلاح، لأن شراكة الجميع فيه، وحاجة الكل إليه، تجعله ثروة بالمشاع بينهم وادخارا لطموحاتهم عندما تحركها هممهم.
2- والمعنى أن المجتمعات الإنسانية كل منها حيث هى - أنتجت ثقافة حَوت مجمل خبراتها ومعارفها وفنونها، ثم إن ما كان صالحا، مقبولا، ونافعا من هذه الثقافة انتقل منها إلى غيرها، أى من البلدان إلى الأقاليم - ومن الأقاليم إلى الدنيا المفتوحة. وإذا حاولنا أن نبحث عن نموذج من التاريخ الطويل للإنسانية، فإن الزراعة قد تكون النموذج الأول والأوضح.
فعندما توصلت بعض المجتمعات فى الشرق الأدنى إلى تجربة ومعرفة وكشف أسرار الزراعة وأساليبها، فقد تكونت فى هذه المجتمعات ثقافة خصبة، وعندما عرفت مجتمعات أخرى شرقا وغربا - ورأت بالاتصال - وجربت واستوعبت - فإن ثقافة الزراعة أصبحت حضارة إنسانية مفتوحة، لا تحتاج إلى صراع ولا إقناع.
فحضارة الزراعة على طول العالم وعرضه، وعلى امتداد التاريخ وتدفقه، تعرفت على بناء البيت والمخزن، واستعملت الفأس والمحراث، واكتشفت الطنبور والساقية، وحفظت البذور وقوتها، وسمدت الأرض وأثرتها، وأتقنت هندسة شق القنوات، ومنها إلى وسائل رفع المياه وتخزينها من سد مأرب فى اليمن إلى سد أسوان العالى فى مصر.
3- وما فعلته ثقافات - وحضارة عصر الزراعة فى البلدان والأقاليم وما وراءها تكرر فى مجالات أخرى أولها التجارة وبعدها التفكير الحر والتعبير الخلاق بالكلمة واللون والصوت، حتى جاء أكبر المجالات وأخطرها وهو مجال الصناعة، ومجال الاتصال والمواصلات وبه تحققت إمكانيات تكنولوجية عالمية بازغة يبرز فيها من يقدر عليها، خصوصا أولئك الذين يستطيعون الربط الخلاق بين النظرية والتطبيق. إن تلك الحركة شملت بالتوازى تنظيم الحقوق وإدارة شئون المجتمعات، حتى استقرت وترسخت فكرة وروح وحكم القانون، وتوالت عصور الانتشار الفكرى من الكلمة المطبوعة إلى الصورة المرئية، ومن السماوات المفتوحة إلى المعلومات المتاحة، وكل ذلك بالتواصل والتفاعل دون حاجة إلى إلحاح يقنع أو سلاح يفرض، طالما أن المجتمعات البشرية لديها ذلك التشوق والتسابق نحو مطالب الرقى والتقدم.
وكذلك راح تدفق الثقافات المتنوعة يفيض على المجمع الحضارى يملؤه ويحركه وينشط فعله وتفاعلاته.
4- وإذا جرى تشبيه هذه الحركة الإنسانية بواقع ما جرى ويجرى فى الطبيعة ذاتها، فربما أمكن القول إن الثقافات كانت بمثابة ينابيع وجداول وأنهار جرت فيها المياه وتدفقت وفاضت على جوارها الإقليمى - ثم إن هذا الجوار أخذ من هذا الفيض ما كانت مجتمعاته مستعدة لاستعماله لزيادة منافعها وتحقيق أقصى الممكن من مطالبها - ثم إن هذا البحر الذى تلاقى فيه الفيض الإنسانى للثقافات المحلية والإقليمية أكمل زحفه وانتشاره حتى وصل إلى المحيط المفتوح أمام كل شراع وأمام أى ملاح لديه الجسارة ومعه خريطة وبوصلة.
وأليس صحيحا أن الجغرافيا هى أم التاريخ وحاضنته ومدرسته وكتابه ومعمله؟!.
معنى ذلك أن ينابيع الثقافات الوطنية التى تدفقت فى جداول وأفرع وأنهار، وتلاقت فى أقاليمها، وصنعت ما يمكن تسميته ببحار أو أحواض حضارية اندفعت كما تفعل البحار حين ترتفع مناسيبها وحين تجد معابرها - إلى المحيط الأعظم الذى يحيط بالقارات كلها، وذلك فعل طبيعى - يقول للجميع بالجغرافيا إنه عالم واحد، كما يقول للجميع بالتاريخ إنها تجربة مشتركة لا يحق لطرف أن يحتكر فضاءها، كما لا يجوز لطرف أن يتنازل عن نصيبه فيها.
على أن ذلك لم يمنع بعض البحار أن تبقى مغلقة على نفسها، وقد تعطل بعضها ضحلا أو راكدا فى مكانه، كما أن بعضها الآخر بإتمام انغلاقه عن غيره تحول - مثل البحر الميت- إلى بؤرة ملوحة أو مرارة، معزولة فى موقعها، محكوم عليها بالانزواء والفناء.
5- وإذا أردنا دليلا على شراكة الحضارة فى مجال آخر لا يحتمل كثرة الظنون فأمامنا مجال العلم، فالعلم سياق واحد ملأته ينابيع وموارد ومصادر متعددة- خطوة موصولة بخطوة موصولة - دون علم وطنى يرتفع أو جواز سفر يسمح أو يحجز - بمعنى أنه ليست هناك مثلا فيزياء أو كيمياء أو فلك أو رياضيات أوروبية صرف- أو صينية صرف - أو هندية صرف - أو عربية إسلامية صرف، وإنما هناك علم واحد صب فيه الجميع من كل نبع ومن كل نهر ومن كل بحر حتى وصل الفيض إلى المحيط المشترك الأكبر، وهناك حافظت على عالميته وفتحتها لكل من يرغب ويستطيع - أدوات للاقتراب والتناول تنظمها شروط متعالية على كل الأجناس وفوق كل الأقاليم.
-أليس لافتا للنظر أن ما جرى فى حضارة الزراعة - وحضارة العلوم - وحضارة الصناعة من تأثيرات تحولت بسرعة إلى أساليب حياة كل يوم وحتى إلى مذاقها.
فعندما وضع كبير خدم اللورد ساندويتش الاسكتلندى شريحة لحم بين طبقتين من الخبز اختصارا لوقت سيده أثناء رحلة مفاجئة - عرف العالم كله وجبة الساندويتش، ولم يتبق للتاريخ من النبيل الاسكتلندى وكبير خدمه سوى اسمه واصلا إلى العصور الحديثة، حتى دون معرفة بأصل الحكاية.
وعندما عثر الرحالة الإيطالى ماركو بولو على عجائن المكرونة وعاد بها إلى إيطاليا، تحولت بسرعة إلى فن إيطالى ثم إلى مطبخ عالمي.
ثم تكرر نفس الشيء مع الوجبات الأمريكية المشهورة التى هى الآن أشهر طعام فى العصر الأمريكي-.
6- وإذا اعتمدنا هذه الصور فنحن أمام حضارة إنسانية واحدة شاركت فى صنعها وفى فيضها وفى حركتها ثقافات متعددة المنابع والموارد والمصادر، فكلها أعطت وزودت، وكلها أضافت وزادت، وكلها أغنت وأثرت، وبالتالى فإنها من العمق إلى السطح شراكة إنسانية حقيقية وكاملة.
لكن المحاولات الإمبراطورية للاستيلاء على الحضارة الإنسانية ونسبتها إلى قوة بعينها - ظاهرة معروفة وليست جديدة، فمن قبل ادعت إمبراطوريات أوروبا فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أنها تقوم باستعمار آسيا وأفريقيا تحملا لعبء الرجل الأبيض The white manصs burden.
فهذا الرجل الأبيض - على حد ادعاء كيبلنج- مكلف برسالة اقتياد للشعوب السوداء والسمراء ولو بالقيود والسلاسل من صحارى وغابات التخلف إلى شواطئ المحيط الحضارى الإنسانى الجامع.
وكان القول فى زمانه ادعاءً تبشيريا يتفق مع مناخ عصره.
لكن الإمبراطورية الأمريكية عندما جاء عصرها بالغت وتجاوزت بكثير خصوصا بعد أن تحولت إلى قوة فائقة Hyper Power غداة نشوة النصر المشهود فى الحرب الباردة.
وقد خطر لها فى هذا السياق أن مطالب السيطرة والصراع والسلاح تسمح لها بادعاء ملكية الحضارة ووراثتها على نحو قطعى - ونهائي.
وليس مصادفة - دون أن يكون بالضرورة مؤامرة - أن حكاية صراع الحضارات - وحكاية نهاية التاريخ - توافق ظهورها مع الغلبة الإمبراطورية فى الحرب الباردة، دون تنبه كاف -عندهم كثيرا- وعند غيرهم أحيانا - إلى أن وهم القوة لا يعطى أصحابه احتكارا، ولا يسلب غيرهم حقا، فى الشراكة الإنسانية الأوسع، لأن هذه الشراكة فى الحضارة أقوى من السلاح ومن الإلحاح، حتى إذا اجتمعا معا فى مشروع إمبراطورى يملك أكبر ترسانة نووية جنبا إلى جنب مع أوسع شبكة للمعلومات الإنترنت.
والواقع أنه عندما خرجت الإمبراطورية الأمريكية غالبة فى صراع الحرب الباردة - وكان ذلك قبل مفاجأة 11 سبتمبر 2001 بكثير، فإنها رسمت لاستراتيجية زمانها الجديد عدة خطوط - فهي:
- تريد أن تحتفظ بتقدمها وتمنع ظهور منافس خطر عليها كما حدث مع كل الإمبراطوريات وذلك بالاستيلاء على الحضارة الإنسانية نهاية التاريخ.
- وتريد أن تخفف من مسئوليتها تجاه الأقاليم التى تعثر فيضها وجفت منابعها، فهذه بالتخلف أصبحت عبئا على المحيط الحضاري، تريد أن تأخذ منه إلى الأبد بينما عطاؤها توقف من زمن صراع الحضارات.
- ثم إن الإمبراطورية تريد أن تؤكد سطوتها الأبدية بإظهار تفوقها وخصوصا السلاح، وهكذا وقعت استعراضات التفرد الأمريكى فى كل الميادين ابتداءً من استثناء كل أمريكى من أى مساءلة دولية مهما فعل - وإلى تميز التجارة الأمريكية فى كل الأسواق بصرف النظر عن حرية السوق - وإلى استئثار بحقوق الملكية العلمية والفنية فى كثير مما كان متاحا فى مجمع الحضارة الأكبر قبل أن تظهر الدولة الأمريكية من الأصل - ثم إنها لا تقبل أن تردع نفسها عن تلويث البيئة تملصا من قيود تفرض على غيرها حرصا على كوكب الأرض نفسه - كما أنها تطلب احتكار موارد الطاقة وليس مجرد النهم فى استهلاكها - ثم زاد أن الإمبراطورية الأمريكية تريد الآن أن تستولى بوضع اليد على الحضارة الإنسانية بأسرها لتختم طابعها على المحيط بأسره تأكيدا نهائيا وتقنينا شرعيا لتفوق أبدى خطط المحافظين الجدد.
- وضمن هذه المحاولة لجأت الإمبراطورية إلى حروب رخيصة تستغل بطش الصدمة والرعب Shock &Awe فى مناطق ضعيفة ورخوة بأقل التكاليف، كى تظهر هول الجحيم الذى أعدته لمن يعصي، وكذلك تحولت أفغانستان وتحول العراق إلى ساحات دم ولهب - مأساتها أنها لا تعرف فى معظم الأحيان هدفا واضحا أو خطة إستراتيجية مدروسة وعلى أى حال فقد جاءت النتائج الواقعة مغايرة للمطامع والغزوات.
7- وإذا عُدت الآن إلى مقولة صراع الحضارات أو حوارها فربما تكون النقطة الجوهرية أنه يتحتم التفرقة باستمرار بين شراكة الحضارة وبين صراعات القوة، فالقوة ميدان تصويب وضرب نار، والحضارة شراكة ومحيط أنوار.
وهنا فإن حقائق الحضارة تمنع الاستيلاء عليها لحساب أى طرف، كما ترفض التنازل عن الحق فيها تحت أى وصف.
8- يترتب على التمسك بالحق الحضارى ورفض أى استدراج إلى الإزاحة أو العزل بمقولات الصراع أو الحوار - لابد أن يصاحبه إدراك وتصميم يصون هذا الحق عن التورط فى صدام أعمى أو فى جدل عقيم - وذلك وضع يشبه إلى حد ما وضع من يتمسك بحقه فى أرضه.
- إذا أراد سندا لهذا الحق بوسائل الصراع، فلابد له من القدرة تعزز الحق.
- وإذا أراد سندا لهذا الحق ببلاغة الإقناع، فإن سحر الكلمة لا يغنى عن كفاءة الفعل، والقدرة على الفعل هنا ليست السلاح، بل لعل السلاح آخر وسائلها، وإنما وسائل القدرة هى بذاتها وسائل العصر.
وقد يكون السياق فى هذا الموضع مناسبا لإشارة نحو ما تستطيع القدرة أن تحققه حتى فى مواجهة التحيزات الصارخة، وفيها ما نسميه ازدواجية المعايير فى السياسة الدولية.
-قبل سنوات وحين كان لهذا الإقليم العربى الإسلامى بعض القدرة - فإنه تمكن من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يعتبر الصهيونية نوعا من أنواع العنصرية - لكنه بعد سنوات وعندما حل العجز محل القدرة سقط ذلك القرار، وكان العرب المسلمون بين الذين صوتوا لإسقاطه، ثم صدر بدلا منه قرار يعتبر مناقشة المحرقة اليهودية سواء فى وقائعها أو فى أعداد ضحاياها جريمة إنسانية تستوجب العقاب.
ولم يكن القرار الأول مجرد ازدواجية معايير لصالح طرف، ولا كان القرار الثانى مجرد ازدواجية معايير لصالح الطرف الآخر، لكنه فى الحالتين كان حركة موازين ترجح أو تخف وفق ما يسندها من إرادة الفعل - وقدرة الفعل!-.
ويستلفت النظر أن الثقافات الصينية والهندوكية لم تهدر وقتا غاليا فى حكاية صراع أو حوار الحضارات، ففى هذه الثقافات الآسيوية كانوا على يقين من أنهم شركاء بثقافاتهم فى المحيط الواسع، وبهذا اليقين أدركوا أن وسيلتهم الرئيسية لتحقيق أهليتهم فى حق الشراكة - أن يبنوا من وسائل القدرة على الفعل ما يمنع مهانة الظلم، أو استعلاء الاحتكار، أو الاجتراء على نفى شراكة الآخرين.
ومن المدهش أن ثقافات الصين والهند والتى كانت الأبعد بالمسافات عن البحار المركزية الأولى للتدفق الثقافى إلى المنبع وإلى البحر وإلى المحيط - أظهرت تمسكا وثيقا بحقها، بينما تخبطت ووهنت ثقافات الشرق الأدنى وهى الأقرب والأكثر إسهاما فى الكل الحضارى المشترك، فهى التى أعطته الأديان السماوية كلها - وبالذات المسيحية - التى نسمع منهم الآن أنها الدعوى الحضارية الأولى لمراكز الغلبة الراهنة.
-أليس لافتا للنظر مرة ثانية أن مذاق طعام حوض الحضارة الصينى وجد طريقه ليصبح انتشارا عالميا واسعا، وأخرج تنويعات مختلفة على مذاقه الأصلى يابانية وتايلاندية وفيتنامية.
كما أخرج حوض الحضارة الهندى بدوره مذاقه ولكن بأسلوب آخر - فإذا كانت إنجلترا قد احتلت الهند بجيوشها قرنين من الزمان، فإن المذاق الهندى يحتل بريطانيا إلى آخر الزمان بمشروب الشاى ومسحوق الكاري-.
9- ومن سوء الحظ أن الثقافة العربية - الإسلامية المعاصرة بتأثير ما ترسب فيها من شوائب وعوالق، وما أصابها من ضعف ووهن، وما لحق أصحابها من عقد بسبب طول مقاساة غلبة الفاتحين وسيطرة المستبدين - كانت مهيأة على نحو ما لمحاولة الإقصاء والاستبعاد من شراكة الحضارة.
وحين قلنا بصراع الحضارات - فقد اعترفنا بالعزلة.
وحين دعينا - أو دعونا للحوار- فقد ذهبنا لما يشبه طلب إذن باللجوء من متظلم إلى متحكم، ولم ندرك أن الحقوق ملكية أصحابها إذا استطاعوا إثبات جدارتهم بها، وليس تواضع الآخرين للسماح لهم ببعضها، ثم إن كل حوار على الحوار بينهم وبين غيرهم لا نهاية له، خصوصا إذا وقع - وهو يوشك أن يقع الآن - وانزلقت العلاقات بين الأطراف إلى صراعات سياسية تتحول بسرعة إلى حروب هويات دينية وعرقية، فعند هذه الدرجة أى كلام يكون بين غرباء أو بين أعداء، عداوة لا تحتمل غير انتصار طرف وهزيمة آخر!- وهنا يموت الحوار أو ينتحر مهما قلنا ومهما قالوا.
-أليس لافتا للنظر مرة ثالثة أن الحوض الحضارى لثقافات الشرق الأدنى لم يستطع أن ينشر مذاقا مميزا له خارج إقليمه، ولعل ما عنده تعرض لتلبك غذائي، كما تعطلت صلته بالحضارة بسبب نوع آخر من التلبك الناشئ من تخمة التيارات المتضاربة التى أصابت المنطقة ولوثتها!-.
10- والغريب أننا حين قبلنا فكرة صراع الحضارات أو حتى حوار الحضارات بالمنطق الذى قُدم لنا - فإننا سلمنا بالقسمة، أى أننا تنازلنا عن الشراكة من أول لحظة. ودخلنا فى حوزة الآخرين وعلى جدول أعمالهم.
ربما كان الأولى أن نبدأ حوارا مع النفس نعرف فيه بالضبط من نحن؟ - وأين نحن؟ - وماذا نريد؟
وكان مثل ذلك الحوار مع النفس كفيلا بتأكيد عدة مسائل:
- أولها: الوعى بالحق فى شراكة الحضارة دون إقصاء أو استبعاد.
- وثانيها: الجدارة بهذا الحق عن طريق دعمه بقيم العصر وأولها روح الحرية والعلم والقانون، دون العودة إلى الماضى والبحث فى كهوف التراث المهجورة وليس فى حدائقه الزاهرة عن سبب للتقوقع بعيدا عن قيم العصر بدعوى الخصوصية، وهو نوع من الهرب مقصود إذ ليس هناك تصادم بين التنوع المحلى للثقافات وبين المشترك فى الحضارة الإنسانية - بل هناك تفاعل وتدفق مساير بالطبيعة لحركة التاريخ.
- وثالثها: أننا فى حاجة إلى فهم ودرس واستيعاب وحوار متواصل مع الدنيا كلها - ولكن فى قضايا ومعضلات الرقى والتقدم، فهناك طلبنا وهو أولى من تحرير عريضة لطلب عضوية فى نادٍ لابد أن يقبل بنا مجلس إدارته وعن طريق قبول التماسنا أو التحفظ عليه بكرات بيضاء أو كرات سوداء، فنحن هناك فى ذلك النادى الحضارى من لحظة تأسيسه وضمن أوائل المؤسسين، لكنها عضوية غير عاملة - خاملة إذا جاز التعبير.
- ورابعها: تجنب فخاخ الاستدراج والاستنزاف بسبب ما يفعله آخرون من أصحاب الغرض فى الإقصاء والاستبعاد، هؤلاء الذين تنبهوا بسرعة إلى ما لحق بالعقلية العربية الإسلامية جراء عصور القهر والظلام، فإذا هم يحاولون تثبيت الانكسار وتعميقه فى العقل وفى الإرادة لدى العرب والمسلمين، والسبيل إلى ذلك استثارتهم بين الحين والآخر بما يدفعهم أكثر وأكثر إلى عزلة البحر الميت وملوحة مياهه ومرارتها.
لقد اكتشفوا أنه يكفيهم أن يلمسوا الثقافة العربية الإسلامية فى عزيز عليها، فإذا هى تستثار وتغضب- ثم تتراجع وتتباعد بحيث تعزل نفسها وتتنازل أكثر وأكثر عن نصيبها فى شراكة الحضارة.
والمحزن أن هناك من اعتدى على المقدسات العربية عملا - وليس لمسا- حين سيطر على المسجد الأقصى فى القدس. وفى نفس الاتجاه فإن ذات الطرف رسم خنزيرا وكتب عليه اسم الرسول الأعز الأكرم.
وهناك - غيره - قام بتوظيف الدين الإسلامى - قديمه وجديده - فى حرب باردة عليه - ساخنة على شباب عربى ومسلم فى أفغانستان - ثم أمسك فى النهاية بمن حاربوا لحسابه ووضعهم وراء القضبان فى جوانتانامو، ثم داس بالأقدام على كتابهم الكريم ومزق صفحاته ورماها فى المرحاض أمام عيون الجميع فى المعسكرات وخارجها.
وفى هذا كله لم يغضب أحد - بل تستر كثيرون.
ولكننا مع ذلك رحنا - نحن الذين لم نغضب من الفعل - نثور باللمس كأننا كنا نبحث عن أهداف سهلة رخيصة.
حدث ذلك سابقا فى تجربة قريبة - هى رواية آيات شيطانية.
نتيجة الثورة والغضب - زادت شهرة كاتبها.
وتكرر على نطاق أوسع فى تجربة أخيرة - هى الرسوم الدنماركية.
نتيجة الثورة والغضب - تكرار نشر الرسوم فى عدد من عواصم الدنيا، وكذلك سمع الناس عن رساميها وناشريها لأول مرة فى حياتهم.
كأن كاتبا - حتى لو كان اسمه سلمان رشدى - يستطيع أن يعتدى على الإسلام، أو كأن رسام خطوط لا يكاد الناس يعرفون اسمه فى صحيفة مجهولة يستطيع إهانة الرسول الأعز والأكرم - أو كأن وزيرا إيطاليا شديد الحمق يستطيع أن يشتم الإسلام لأنه ارتدى قميصا عليه رسوم بالغة الانحطاط عديمة القيمة!
لكنهم اكتشفوا وجربوا كيف يحركون من ردود الفعل ما يستثيره الضعف ولا تأبه به القوة.
وفى المحصلة فإننا نجد أنفسنا بالواقع وبسهولة شديدة - محزنة فى نفس الوقت - نساعد على تحويل صراعات سياسية إلى حروب هويات حضارية تخرج غاضبة منسحبة من شراكة التقدم الإنسانى الجامع والشامل مع أى استفزاز - يتحول بالإثارة إلى فتنة، ويتحول بالفتنة إلى حرب، ويتحول بالحرب إلى قطيعة، ويتحول بالقطيعة إلى حصار للذات، ومن سوء الحظ أن حكومات عربية إسلامية - بوعى أو بغير وعى - تصرفت حيال الفتنة بقدر كبير من قصر النظر فى إدارة الأزمات إن لم يكن بقدر كبير من سوء النية بمحاولة استغلال الفتنة للإلهاء والتغييب.
وقد أضيف لاستكمال الرؤية والرأى - أن رغبة الاستغلال لم تقتصر على الحكومات، وإنما تعدتها إلى مؤسسات وأفراد، بادعاء أن الترياق الشافى من الفتن يتحقق بالوفود تذهب والوفود تجيء، وبالمؤتمرات تعقد والمؤتمرات تنفض، وبالأوراق تُقرأ ثم بالأوراق تُنسى لكى يجرى تدويرها وتعود إلى إنتاج نفسها من جديد.
تلك كلها باختصار وساوس تجمح بأصحابها إلى حيث لا يريدون ولا يقصدون، فإذا هى عودة من شواطئ المحيط الإنسانى الواسع وحيويته الخلاقة إلى دروب وعرة موحلة تؤدى إلى البحر الميت وموجه الراكد وأملاحه الزائدة!!
بغض النظر عن وجهة نظر كاتب المقال وهو الاستاذ حسنين هيكل نحن كعرب وكمسلمين لا نساوم ولن نرضي باي اساءة الي النبي الكريم وسنقف بشدة وارواحانا فداك يا رسول الله وصلي الله وسلم علي سيدنا محمد النبي الكريم
وياريت نكثر من الصلاة علي الرسول (ص) .....