عبد العزيز محمد داؤود.. هل أنت معي؟!

بقلم : نشأت الامام

 

'' ... جلست أنظر اليه، لم اكن اعلم انى اشهد طرفآ من ساعاته الأخيرات، وهو جالس امامى، صدره يعلو سريعآ ويهبط سريعآ، اردت ان اقول له اننى لم اكن مقتنعآ بسفره للأبيض، لأنه كان مريضآ بحمى وبيلة ، عرفت حدتها حين جعلت يدى على جبينه، اصرت عايدة عبد العزيز ألا اترك اباها يسافر للأبيض، كانت قلقة ليلتئذ وقد زايلها مرح معهود فى اسرة ربها واتسم بالمرح، حدثتنى ماجدة عبد العزيز مرّة ان والدها قال لها نكتة يبدو انه الفها فى حينه، قال:

ـ يا ماجدة سمعتى بالجدادة الإستضافوها فى الاذاعة؟

قالت ماجدة:

ـ لأ .

قال عبد العزيز:

ـ في دجاجة دخلت الاستديو، وكالعادة شكرت الاذاعة على اتاحة الفرصة، واتكلمت عن مزارع الدواجن، والاوبئة، وحياة الجداد فى البيوت ايام زمان.. اتكلمت كويس، وبعدين المذيع كالعادة قال ليها تحبى تسمعى اغنية شنو؟

الجدادة ما اتلفتت.. قالت احب استمع لاغنية : فى الليلة ديك!''

***

ونحن نجتر ذكراه الثانية والعشرين -بعد ثمانية وعشرين يوماً من الآن- ربما يتسائل القراء عن صاحب هذه المقدمة التي نستهل بها الحديث عن الفنان الراحل عبد العزيز محمد داوود، بكل ما فيها من حميمية وملاحة وعمق.

.. ومن غير الراحل علي المك يمكن أن يكتب هذه المرثية المفعمة بالمودة والشجن والحزن؟!

(1)

حصافة شيخ الخلوة الذي قال ان صوت عبد العزيز محمد داوود كان جميلاً بعد ان صقلته تلاوة القرآن في ثلاثينات القرن الماضي في بربر، سرعان ما ترتبت عليها فصله من الخلوة بعدما سمعه الشيخ يغني في ختان احد اصدقائه، فإتجه بصوته الرخيم الى الغناء بحصيلته الوافرة من غناء كبار الفنانيين آنذاك مثل كرومة وسرور والامين برهان وزنقار.

(2)

همسات من ضمير الغيب تشجى مسمعى

وخيالات الأمانى رفرفت فى مضجعى

وأنا بين ضلوعى لا أعى

عادنى الوجد إلى ليلى وكأسى المترع

وسعير الحب يشقينى ويشقى مضجعى

ولهيب الشوق يدعونى فهل أنت معى؟

(3)

عندما يتهاوى جدار الصمتْ وتَخْرجْ الكلمات وتصيرُ أشعاراً،

تهبط على أوتار يعزفها برعى محمد دفع الله

عندما تصير الأشعار ألحاناً

تجرى لمستقر لها عند حنجرةِ أبو داؤود

يمتلئُ الكونُ غناءً وتخضر الصحارى اليابساتْ

وتهبط فى روابينا الأفراحْ ويتمددُ الوقتُ فى شراييننا

عندها ندركُ:

أن أبو داؤود يغنى..!

(4)

ما سبق، بداية شاعرية إستهل بها الدكتور محمد عبد الله الريح كتابه (ابُو دَاؤُودْ كيف الحياة غير ليمك ؟) ووثق به تعلقه بعبقرية الفنان الراحل، ثم قال ود الريح:

ذات يومٍ سرحتُ بعيداً .. وأنا أمتطى صهوة نغماتٍ خالداتٍ كان يرددُها أبو داؤود :

حيا إنة المجروُح

يا الروحْ حياتَك روحْ

الحبّ فيكْ ياجميلْ

معنىَ الجمال مَشَرُوحْ

بنهاية كلمة '' مشروح:'' ينطلق فعلٌ ما، شرارةٌ ما، تغمر الإحساس، تتطلب رد فعلٍ من نوعٍ ما، شئ فى تكوينك الوجدانى يتفاعل مع عشرات المؤثرات الموسيقية والصوتية وينتجُ عن هذا طربٌ هائل لا يمكن قياسه ..

بمقدار ما للحب لهيب فى الجوف:

زى الزناد مقدوح

مِنو الجبابرة تلين

م كل شئ يلين فى تلك الحظة، يترك الجماد هيئته ويتحول الى سائل، يرتدى السائل غلالة شفافةً فيتحول الى بخار نستنشقه داخل رئاتنا وخلايانا .. وهكذا يتحول الطربُ الخارجى الى طرب داخلى ..

سالتُ صديقي ـ والحديث للدكتور ود الريح ـ ونحن نستمع الى اغانى مسجلة لأبوداؤود:

هل تعتقد أنه سياْتى فنان مثل أبوداؤود ؟

رد : ربما فى التطريب .. شئ يقارب ولكن فى قوة الصوت والأداء لا اعتقد .. أبو داؤود ظاهرة طبيعية لا تتكرر ، وأذكر ايضاً أنه قال لى :

أبوداؤود مجموعة مؤثرات كثيرة .. بسطة فى الجسم، حضور دائم، بديهة حاضرة، إنشاد، غناء، مديح، ترنيم، دندنة، عبور غير محدود بزمان أو مكان نحو الاخرين ..إبن مليون نكتة حفرت مفارقاتها فى ذاكرة الشعب السوداني .. أبو داؤود كبريتة تحفظ الإيقاع، وتكرار كل هذه العبقريات مرة أخرى مستحيل .. ربما يكون فى هذا الفنان شئ من أبو داؤود .. وفى ذلك أيضاً ، فهو إذن مفرق على عدد كبير من الفنانين والمبدعين.

(5)

أوتذكرين صغيرتى؟!

أوربما لا تذكرين

الخمسة الأعوام قد مرت، ومازال الحنين

الشوق والأحلام، ما زالت تؤرق، والسنين

(6)

تعامل عبد العزيز مع الكثير من الملحنين والشعراء الا ان اكثر من ارتبط اسم عبد العزيز به، كان الموسيقار الراحل برعي محمد دفع الله والاستاذ بشير عباس، عازفي العود المجيدين ولاننسى عرابه الاوحد البروفيسور على المك، المبشر الاول لرياحين ابوداؤود في العالمين، وكلاهما لا يمكن تعويضهما ولكن، هكذا هى الحياة، كتاب مفتوح على الموت القابع فى احشائها وعلى الحزن المضفور مع سعف افراحها.

(7)

في خواتيم إحتفائنا بأبي داوود، لانجد خيراً مما كتبه الدكتور ود الريح في نهاية وثيقته(ابُو دَاؤُودْ : كيف الحياة غير ليمك ؟ حيث قال: يا صاحبى .. هذا حديث لا ينتهى .. رحم الله أبوداؤود عبد العزيز بن محمد، أشهر مغنيي الدولة الأموية والعباسية ودولة الأندلس والفاطميين والتركية والمهدية والاستقلال وعصر الانترنت ..

الأكبر من أبو داؤود .. هو قلبه.. ألم يسعنا كلنا ؟















 

نشأت الامام

 

راسل الكاتب