محمد بشير عتيق..

بقلم : نشأت الامام

 

شاعر إستنطق «الشعر» العصيّا

محمد بشير عتيق..

موثق الصبابة ومؤرخ العشاق

يعز على أوراق اليمام، حين توثق للفحول من أرباب الشعر الغنائي في السودان، إن توضع في هذا الموقف.. موقف التقديم لشاعر معتق في قامة عتيق، وهو على صهوة ملكاته المتعددة، مطل من بروج قصوره الشعرية التي شادها مساكناً للعشاق، تقيهم من برد النوى وحر الجوى.

نتشرف جداً أن نتمسح في هذه المساحة بعطر عتيق الذي يشرفنا ولانشرفه.. يؤانسنا بشذا سيرته ورحيق شعره.

ولد محمد بشير عتيق في حي أبي روف في العام 1909م. كان والده معلماً للغة العربية وعلوم القرآن الكريم، وعندما نقل والده للعمل بمدينة الدويم، كان بيتهم قبلة كل من شغف بالادب والشعر، منهم الشاعر محمد سعيد العباسي

منذ صغره شنفت اشعار العرب وقصصهم سمع عتيق الذي كان ولعاً بالقراءة منذ طفولته، يقضي معظم وقته مندساً بين كتب والده، حيث طالع في وقت مبكر شعر البرعي وابن الفارض وجواهر الادب والاغاني والمجموعة النبهانية.

عبقرية.. ولكن

رغم عبقريته غير «المنكورة»، لم يوفق عتيق في الدخول للمرحلة الوسطى، فالتحق بمهنة البرادة لاعجابه بعمال البواخر التي كان يستقلها حينما يسافر من وإلى امدرمان فلم يجد بداً من الإلتحاق بالمدرسة الصناعية تحقيقاً لرغبته الدفينه وربما ليتدرب على سمكرة المشاعر التي خدشتها حوادث الهجر والنسيان.

يحكي الاستاذ محمد حسن الجقر في سفره: ''روائع حقيبة امدرمان'' قول عتيق عن تلك الفترة: ''كنت اكتب شعراً لا وزن له ولا قافية.. وعندما يستمع اليّ الناظر ''أحمد حسن حدربي'' كان يشجعني ويقول ان لي ملكة شعر غنائي، وسيكون لي شأن''.

تحقق لعتيق ما أراده الله، فتخرج وعمل في مصلحة السكة الحديد في العام 1930م.

في العطلات المدرسية كان يعود الى اهله في امدرمان ويرتاد ''بيوت الاعراس'' وهي في واقع الامر بمثابة مسارح للغناء والرقص، وما إختلاف الشباب اليها الاّ كونها ملاذ للحسان في مجتمع لا يسمح بظهور المرأة الا في تلك المناسبات.

كان فرسان الغناء في ذلك الوقت هم ''علي الشايقي''، و''عمر البنا''، و''محمد الامين بادي'' وثلاثتهم من أنصار الشاعر ''أبو صلاح''، يغنون قصائده ويتعصبون لمذهبه.

في هؤلاء، وجد عتيق ما يصبو اليه، وهو الانتماء الفني لمدرسة أبي صلاح وعنها يقول:

''إنها تمتاز بالأوصاف الجمالية، والمعاني الحسية والغزل الرقيق والعاطفة المشبوبة، وغنية بالبديع ولزوم ما يلزم والجناس، وقد إستهواني هذا كله، فصرت انسج على منواله''.

عن معرفته بابي صلاح يقول عتيق:

''عرفته اول مرة حين قدمني له الشاعر المغني ''عمر البنا'' في حفل عرس في أبي روف، وانشدته بعض شعري، وسرني ان يكون هذا الشاعر الذي اعجب به كثيراً، رغم ان ''في البلد'' شعراء كبار لهم اغاني رائجة يؤديها سرور والامين برهان وغيرهما، الا انني لم اكن اميل اليهم كثيرا''.

معتق وأصيل

من يومها وعتيق يهدي الأغنية السودانية كل معتق واصيل، بعقل عفيف لم يعاقر الخمر في حياته قط.. وكان على تأدبه هذا مجيداً في الوصف.. وذو بديهة حاضرة.. ولطف ومؤانسة عرفها كل من التقاه عن قرب.

ولعتيق الكثير من الاغنيات الشهيرة.. من بينها ''ناعس الأجفا'ن'، حلمك يا جميل، اذكريني يا حمامة، ليلة سمر، هل تدري يا نعسان، ليلة ساهرة، حارم وصلي مالك وهي الاغنية التي تغنى بها عثمان حسين في بداية مشواره، الأمان، ليلة ويا لها من ليلة، كنت معاه هسه، الأوصفوك، من اول نظرة، وغيرها من خالد الأغنيات التي يتغنى بها الفنانين الى يومنا هذا..

ونحن هنا نحاول ان نفرد مساحة لذكرى هذا الشاعر الجميل، وعلى سيرته نلتقي بصديقه الشاعر التجاني حاج موسى في بعض من ذكريات جمعته بالراحل عتيق..

يقول التجاني حاج موسى:

''عتيق من رموز الحركة الابداعية المعاصرة في السودان، ولعله آخر العظماء من جيل شعراء الحقيبة، والرجل ظل لعقود من الزمان يجمل حياتنا برقيق الأغنيات منذ مطلع العشرينات حتى بداية التسعينات..

آخر أمسية مع الراحل عتيق كانت في عنبر من عنابر الجناح الخاص بمستشفى السلاح الطبي، دخلت عليه بصحبة زوجتي فاحتضننا بابتسامته الطفولية ثم قال:

- كلها أيام وأرجع زي البمب... عارف يا تجاني، أنا بكتب في قصيدة للواء الفاضلابي قائد السلاح الطبي، وهو بنفسو حجز لي الغرفة دي.. طبعاً نحنا معشر الشعراء عايشين وغيرنا الوارث..

الواحد فينا عندو آلاف الأبيات الشعرية وما عندو بيت واحد يسكن فيهو..!!

تركت زوجتي مع عتيق في غرفته وخرجت لاتحدث مع سعادة اللواء الركن أبو قرون الذي كان وقتها في الخدمة العسكرية..

- تعرف يا التجاني.. تبقت ساعات معدودة والأعمار بيد الله..

-لطفك يا رب..

انها البروستاتا صنيعة السرطان اللعين، هكذا حدثني اللواء الفاضلابي.. «والفتيل الشايفو في حامل الدرب ده.. مورفين لتخفيف الألم»..

جاهدت نفسي أن أرجع مرة أخرى إلى غرفة عتيق لأنتزعه من زوجتي..

- أها يا أستاذ عتيق.. الزاروك منو؟

- كل الشعب السوداني جاء هنا.. شوف الكراس داك..

عتيق أشار إلى علبة حلوى مزدانة بالزهور، قال إنها هدية «الملهمة».. ثم نطق باسمها ولم أكن قد سمعت بها بعد..

الملهمة

ملهمة عتيق كانت موضوع جدل امتد حتى صفحات الصحف، وأذكر أنني تجرأت وعنفت عتيق لاعلانه باسم ملهمته، وأذكر أنه ردني قائلاً:

«أنا سفيه يا التجاني.. حصل يوم سمعت أو جابو ليك ما يشين سمعتي؟ هل سمعت بأنني عاقرت الخمر في يوم من الأيام؟ هل دخنت سيجارة؟

إذن ماذا تتوقع من عجوز مثلي تجاوز الثمانين مع فتاة في عمر الزهور..!!

أنا يا ابني عبرت البر الآخر.. ومطمئن تماماً لهذا العبور والباقي شوية.. أنا أعشق الجمال لذاته.. وأسبح خالق الجمال.. و«.....» بمثابة ابنتي وهي تعلم كنه تلك العلاقة..»

خجلت من نفسي واعتذرت له لأنني تجرأت عليه ونقلت له ما يدور من أقوال عنه وعن علاقته التي كتب فيها شعراً.. وأنا الذي سافرت معه وسامرته مرات ومرات، وكلانا يلبي دعوات محبي الشعر في العديد من مدن السودان، وأشهد الله أن عتيق كان يوقظني لصلاة الصبح بعد أن يكون قد قرأ جزءاً أو جزئين من القرآن..

- تعرف يا تجاني، أنا ما حافظ القرآن كلو.. لكن هضمتو.. خمسين سنة ونظري يجري على المصحف فتتري الآيات تباعاً.. أقرأ القرآن يا ابني لو عايز تبقى شاعر عظيم.. لأن ما فيه هو خلاص الدنيا والآخرة..

رحمك الله يا عتيق..

ذكريات طريفة

أوشك عتيق يوماً أن يقع مني وهو يرادفني موتري «الفيسبا» إذ كان يفضل ركوبه معي، ويومها كان يقرأ لي قصيدة جديدة فنسي نفسه وأخذ يعبر بكلتا يديه حتى أفلتت قبضته من الموتر وكاد يسقط على قفاه..

يومها.. ذهبنا إلى المنطقة الصناعية وثبتنا حديدة على المقعد الخلفي كمسند أسميته مسند عتيق!!

حكى لي يوماً عتيق أنه زار الأستاذ محمود أبو العزائم إبان توليه منصب مدير عام الاذاعة.. دخل مكتبه مطالباً بزيادة مكافأة الشاعر حينما تسجل الاذاعة أغنية له، لأن ترتيبه يأتي بعد المغني والملحن فرد عليه أبا العزائم بأن الشاعر أكبر من حفنة مال زائل وأخذ يسوق دفوعاً مثالية وانتهى استاذنا أبو العزائم بسرده جنازة الفنان يوسف وهبي الذي قال إن القاهرة كلها سارت في تشييعه.. وكان يعتقد بأنه ألجم عتيق حجراً، غير أنه سرعان ما انفجر ضاحكاً حين سأله عتيق ساخراً:وإنا شاء الله المرحوم يوسف وهبي يكون رفع راسو شاف المشييعين!!

رحم الله عتيق الذي جمّل حديقة الغناء السوداني منذ العام 1926م حين كتب «حارم وصلي مالك» تلك الأغنية الخالدة التي لحنها وأداها قمة الغناء السوداني عثمان حسين كأول أغنية له استهل بها مشواره الخالد







 

نشأت الامام

 

راسل الكاتب