تنازع جروح القوافي وأعطاب الجسد

بقلم : نشأت الامام

 

تنازع جروح القوافي وأعطاب الجسد
جدل التشخيص عند أطباء الشعر وشعر الأطباء

هب إنك إخصائي في جراحة العيون، حاصل على زمالة الشعر من جامعة ديوان العرب، فأية عيون تستهويك..تلك التي في طرفها حوَر، أم التي جللتها الرمد، على إتساع فيها وبريق وحريق؟

الدكتور إبراهيم ناجي الذي وثّق لــ «أطلال» مدن العشق وحواري المحبين التي قصفتها مدافع الهجر وراجمات النسيان، كتب أعظم روشتة في طب الروح ووصف الجسد، مازال العشاق يبحثون عن بغيتهم في صيدلايات الدنيا، وحناجر أعينهم تقول:

أين من عيني حبيب ساحر فيه نبل وحياء وضياء

واثق الخطوة يمشي ملكاً ظاهر الحسن شهيّ الكبرياء

الدكتور حسبو سليمان، رغم سبره لغور النفس البشرية بحكم التخصص، إلا انه حين حمل سماعة الشعر، إندلق تشخيصه عبر إنبوب الفنان سيد خليفة لأوردة المستمعين حتى صارت قوانين في مناهج العشق، و«أسألوه قايل الناس نسوه»!

وحين نكتب توطئة لموضوعنا اللاحق، لا ننس البروفيسور الزين عباس عمارة، إمام العاشقين وطبيب المتقين الذي وقع مبكراً في دفتر الطبيب الشاعر، وخاب سعينا للقائه لضيق ذات الوقت وقنوات الاتصال.

ربما يتفق الشعراء الثلاثة الذين نستضفيهم اليوم، كونهم من أعمار متقاربة، على إختلاف في تخصصهم الشعري والطبي،وإتفاق في الغوص بمنهجية وشاعرية في تشخيص المرض ومن ثم كتابة الروشته التي ربما تم التمهيد لها بقصيدة.

في هذا التقرير نحاول تفكيك العلاقة بين الطب والشعر عبر محورين كانت الاجابة عليهما على النحو التالي:

المحور الأول: الى أي مدى يستصحب الطبيب شاعريته خلال تشخيصه للحالات المرضية التي يفحصها؟

وضعنا التساؤل على طاولة الدكتور. معز عمر بخيت الذي بدأ روشته على النحو التالي:

«لكي يتمكن الطبيب من التشخيص، لابد أن يصطحب معه كل ملكاته الإبداعية المتمثلة في:

المعرفة، الإلمام بالشبكة الخاصة بها والدراية بطرقها وشعابها المعقدة، الذكاء الفطري والمكتسب، الذاكرة الفعالة، العاطفة الإنسانية والإحساس بمعاناة المريض من قبل ومن بعد.

والشاعر يتمتع بكل هذه القدرات الإنسانية التي تعمل بتلقائية وعفوية عند التعامل مع المريض. هذا الأمر تبرز أهميته في الزيارة الأولى التي تكون مهمة في جوانبها النفسية والعضوية، حيث تبدأ في الغوص بمنهجية بشاعرية في تاريخ المرض. وهنا يتميز الشاعر في جعل المريض يحس بالدفء والأمان فيسرد تاريخ مرضه بلا حواجز أو ارتباك.

الحالة النفسية للمريض وكسب الثقة لديه ومنحه الهدوء والطمأنينة يساعد دون شك في تشخيص المرض، ولا أعتقد أن على الطبيب الشاعر الانفصال من شاعريته وهو يتعامل مع المريض، وعليه ألا يلبس ثوب الطب المجرد المحصور في صورة الطبيب الجافة المرتبطة بالمعرفة بعيداً عن الجوانب الأخرى.

لذلك يجب على كل طبيب أن تكون له منهجية معينة سواء في الطب الخاص أو العام، تبدأ مداخلها بالنفس البشرية وفتح أبواب الصفاء لدى المريض ومنحه الشعور بالأمان وأن حلم العافية ليس إلا قاب قوسين وأدنى من الحقيقة والواقع، والشاعر الطبيب أو الطبيب الشاعر، هو بالتأكيد أكثر حظاَ لأن الله سبحانه وتعالى منحه تلك المميزات الفطرية التي تغنيه عن وضع بروتوكولاًت إنسانية مختلفة».

عمر خالد بين دم المريخ وبلازما الشعر

أمّا الدكتور عمر محمود خالد، فأجاب عن نفس السؤال بالقول:

«منذ وعيي الاول، وانا لا احب منظر الدم.. وعندما كنا اطباء امتياز كان لزاماً عليّ ان أقضي فترة في الجراحة وبعدها أتجهت لتخصص بعيد عنها لأن الشاعر يعتمد على الخيال والتأمل ويبحث عن الجمال في كل صورة، كان على الهرب من سيلان الدماء التي لن تجد فيها ألهاماً سوى الموت.

وعلى الرغم من معرفتي بان الدم اكسير الحياة، الا انني لا استطيع رؤيته واذكر بيتين كتبتهما في مدح فريق المريخ استعرت فيهما لون الدم:

الاصفر الرنان والاحمر القاني

يا زينة الألوان يا خير الواني

وكتبت ايضاً كشاعر طبيب عن المريخ:

نحن بالاحمر نحيا في الشرايين

وفي اخرى:

منو القال بعد ما عشتي فيّ ازمان

بقيتي لي زي احساس وزي انفاس

بقيتي النبض في الشريان

ويقول الدكتور عمر انه حين راجع قصائده يومآً لم يجد احداها تخلو من العيون، لأنها مرآة الوجه ومعيار الجمال والذكاء لدى الانسان، أو كما قال.

خيال الطب يرتاد الثريا

عن مدى انعكاس شاعريته عليه كطبيب، قال الدكتور أحمد فرح شادول:

«انعكست شاعريتى في تعاملى مع المرضى الذين هم في حاجة لها لأنها تساعد فى قراءة اشياء بعيدة عن إدراك الشخص العادى.

والطب منهجه علمي بحت الا اننى احياناً أجنح الى الخيال، لعلمي أن في جسد الانسان اشياء لم يتوصل اليها العلم بعد فأحاول استصحاب شاعريتي حتى أصل اليها بمخيلتى.

ولأني أتعامل كثيراً مع الأطفال، وهم فئه خاصة ليس في إمكانهم التعبير عن الشكوى، أضطر لإستقراء الرابطة بينهم وأمهاتهم والتعامل مع الاحاسيس والاشياء غير المرئية، وحينها علمت من إفادتي من كوني أتعاطي الأدب وأتعامل مع أدوات الشعر ومعيناته.



المحور الثاني: هل يستصحب الشاعر معه دراسته للطب وفهمه لتركيبة الإنسان الجسدية في تناوله الشعري؟

الدكتور معز بخيت يقول:

«هذا ليس بالضرورة، ولكنه أمر محبب إن كان الشاعر قادراً على تحويل ذلك المخلوق الإنساني العظيم بجسده وعواطفه لعوالم شاعرية نابضة بالإحساس والجمال، تمنح الطب صورة أكثر رقة وعذوبة.

وهنا أستخلص لك بعض الأمثلة من قصائدي:

* والجداول من وريد النيل تسقى أضلعي

* نقّبت شراييني بحثت وريدي والأعصاب

بخلايا المخ وبالصمام

بنسيج القلب نضار الزهر وكل سراب

أنصت أنا لحديث النبض الدافئ

لحنا في الرئتين

* وأتابع الأعصاب في خفق الرحيل

من النخاع إلى الخليات العقيمة..

* فلا شعبي الهوائية..

ولا شرياني التاجي ولا صدري

هنا تلاحظ أنني أحوّل الأنسجة والخلايا والدماء والشرايين والأوردة ودواخل الإنسان العضوية لعناصر حية تعيش في مدن واقعية من صنع الخيال، يتجول المرء فيها ويجعلها محطات انتظار أو ينابيع شجن أو أنهار فرح ونضار، وهي لا تختلف في شاعريتها عن البدر والنجوم والليل والنهار والبحر والسماء الصافية».

العيون واليرقان

أما د. عمر محمود فيقول:

«انا شاعر صار طبيباً، وسعيد انا بحفظ هذا التوازن بين مهنتي كطبيب وحقيقتي كشاعر ولا استحي ان اقول بان الطبيب الشاعر اكثر احساساً بالآم المرضى عن سواه وتجد ذلك في تفاعلي مع مريضي وتشخيصي لحالته الاجتماعية والنفسية بجانب حالته الصحية وادرك مدى تأثير ذلك عليه. ولدينا الكثير من المقولات التي نحفظها ونرددها مثلك «عينو واقعة» وعندما درسنا الطب وجدنا هذا الشخص صاحب العين «الواقعة» هو فاقد للسوائل، وايضاً العين الجاحظة تعني ان هناك نشاطاً زائداً في الغدة الدرقية والعين المصفرة تنبئك بان هناك مشاكل في الكبد، وربما يعاني صاحبها من اليرقان.. والعين الشاحبة يعني فقر للدم».

د. محمد فرح شادول يمسك بدفة المحور ويذكر:

«هناك علاقة تجمع بين الطب والأدب، والاثنين ضرب من الفن، والطب مهنة مكتسبة والأدب موهبة مطورة يتفقان بأن بهما شفاء للجسد والروح.. وأنا إستفدت من مهنة الطب في تعاطي الشعر لما بها من واقعية أفادتنى فى شعرى.و قراراتى.

والأدب عموماً به كثير من الأشياء إذ انك تتعامل مع احاسيس ومشاعر وروح وكيان مختلف عن الجسد المادى وفيه كثير من الخيال، وأظنني تعلمت من الطب ان انتبه الى هذه الاشياء لتتكامل عندي الصورة، فالأدب فيه شئ من الرقة واحترام المشاعر والاحاسيس».













 

نشأت الامام

 

راسل الكاتب