اسحق الحلنقي

بقلم : نشأت الامام

 

الحلنقي يحاول تحرير الاغنية من أسر الكآبة
شاعر گسلا يلخص حياته في ثلاث :
التاگا.. القـــاش.. الأهـــل
الاغتراب الروحي ، مثل العيون العسلية ، قدر لا خيار فيه
اسحق الحلنقي ، اسم قرين لكسلا والقاش ، ورديف للغناء العذب الجميل لكن الحلنقي ليس اسماً فحسب ، وإنما هو نغمة خالدة بفضل اسهامه المميز في الشعر الغنائي ، والذي كان سمة مرحلة بكاملها. الحلنقي الذي أخذته الغربة حيناً من الدهر ، عاد بوعد جميل ، هو تحرير الاغنية من أسر الكآبة ، وتخليص أحبائه من هذا الحزن الدامي الذي يتسلق الغناء . أهلاً بالحلنقي في رحاب «موقع ودمدني».

 

حوار: نشـأت الإمـام


# الاستاذ اسحق الحلنقي .. مالذى تبقى من أماكن الطفولة وأنت فى شتات اغترابك ؟

- أنا حياتي تتكون من ثلاث (جبال التاكا ، القاش ، الأهل) بدونهم أحس بأني بلا ملامح ، ليس بالضرورة ان تكون بعيداً أو قريباً ، فالقاش والتاكا باتا يكونان ملامحي .. ومختومان بداخلي ، لا تستغرب ان وجدتني الآن وانا بينكم وأشرب من مياه توتيل .. فالمسألة ليست في البعد المكاني ، لأن هذا النأي والبعد لا يلغي التواصل الروحي ، نعم أنا الآن لست فى كسلا ، ولكن ... كسلا هي التي بداخلي.

# سبعة عشر عاماً إغتراب .. نحس ان الحلنقي في فترة انقطاعه تلك لم يستفد الكثير من غربته تلك .. فكأنما قد أرسى قاربه ، وأتى بعد 17 عاماً ليأخذ قاربه من ذات المكان ، ثم ينطلق به مجددا ... ؟

- هناك الكثير من القصائد ذات الشكل الجديد ، خذ مثلاً قصيدة المشكلة ، في كل تاريخ السودان لم يكتب شاعر أغنية مشكلة لأن المشاكل لا تكتب :

الروح تروح

مامشكلة

وتزيد جروحي على جروح

مامشكلة

المشكلة ريدتك بقت هي

المشكلة

أديني حل

للمشكلة ..

أما عن الاستفادة من التطور التقني ، فأنا لا أؤمن بهذه البهرجة والألوان ، ولن أستعيض الطين ورقشته في الجروف بالرخام ، لأن الرخام بارد وليس لديه إنتماء ، أما الطين فأحس فيه بالروح ..

تجد ان اليابانيين قد حاولوا جهدهم في ان يصنعوا لؤلؤاً يبدو طبيعياً ،ولكن هذه المحاولة وتلقائية التخلف وهذا الوهج والوميض الذي يشع من اللؤلؤ الطبيعي لم يستطيعوا بكل هذا التطور إدراكه ، وترى ذلك وتحسه جلياً حينما تستمع بصوت الآلات الموسيقية التى تعمل بالكهرباء ، ولكن حينما تستمع لصوت الكمان فإنك تشعر بالروح وبالحياة في هذه الآلة .. الكثير من الحنين ومن الشحن تحسه فيها.. وهذا يثبت أن الأبراج العالية مهما علت ، فالنجوم هي الأعلى..

# إذن أنت ضد شعر الحداثة ، ومازلت تحت سطوة النص القديم .. ألا ترى أن هناك إلحاحاً يدعونا للفكاك من هيمنة الاشكال القديمة والشعر الموزون المقفى ؟

- نعم .. انا في اعتقادي الخاص ان الشعر اذا فقد الموسيقي يصبح وكأنه حفنة من رماد ... لسبب بسيط وهو ان الموسيقي هي ايقاعات وجدانية فيها انسياب للكلام العادي ، وعندما يفتقد الشعر للقافية معنى ذلك أنه أصبح لا صدى له .. فأبو الطيب المتنبي توفى منذ اكثر من ألف عام ، ولكن هاهي قصائده بيننا لا تزال تنبض بالحياة، لو كان المتنبي يكتب شعراً منثوراً لما عاشت قصائدة فالموسيقى الشعرية ضرورة لثبات الشعر في اعماق الناس.

# اذن ماهي سمات قصائد الحلنقي وماهو الهاجس الذي يجعله يكتب ؟

- قد اكون في حالة قراءة لكتاب وأجد جملة (حلوة) وأحبها ، أتركها بداخلي تكبر وتكبر ، الى ان تعطيني رسالة بأنها قد أصبحت لي .. وكثيراً ماقابلتني هذه الاشياء ... بل ان بعض الاخوة الفنانين في أحايين كثيرة يقول لي أحدهم كلمة حلوة فتكون بداية لاغنية ، والامثلة كثيرة لاغنيات مثل (غربة وشوق ، وأغنية بساط الريح ، وياريتو ينفع فيك سهري السهرتو عليك ، وغيرها).

هذه الكلمات التي أسمعها اتعاطف معها وأعلمها تحبني وأحبها ، وتكبر في داخلي ويحصل بيننا تجاذباً الى ان يحصل نوع من المخاض ، وتخبرني بأنها ستصبح طفلتي ، واحدة من أولئك ..

قد تكون طفلة رقيقة وحنونة ، أو ان تكون متمردة ، كل الاغنيات التي كتبتها والتي تتجاوز المائة اغنية بدأت بكلمة أو لحظة تأمل ...

واغنياتي سماتها العذوبة والرقة الآسرة ، وحتى الأوجاع أحب ان اغنيها بصورة مخففة ، فمثلاً الغربة هي مداخل للدموع ومداخل لعدد من التراكمات والآلام الصعبة ، لكني حينما اتناولها أحب ان أعبر عنها بطريقة مخففة ، الغربة التي تصل حد المأساة لا أميل لكتابتها ، اميل لأن تكون أحزان الغربة حنية غير قاسية ، وأنا ضد الدموع في الكتابة ، ضد التغني لخصر المحبوب وجميع المسائل الحسية ، لانها تسقط الملامح السماوية في عاطفتي ، ودوماً أترك محبوبي بعيداً عن رذاذ الماديات ، وعن سطوتها ، وكذلك لا احب كلمات الضعف التي تتخطى حداً معيناً ، أي التباكي الكثير والخضوع ، وأنا مهما أحببت لا يمكن أبداً ان أصل لدرجة الهوان ، دوماً أحاول عمل موازنة مع ذاتي كي لا أفقد كبريائي وكرامتي ، قد تقودني القصيدة لان أبكى بشدة ولكنها لا توصلني للحزن الطاقي الذي يظهر الضعف.

# أستاذ الحلنقي برغم ذلك نلحظ ان معظم قصائدك بها الكثير من الشجن .. من أين أتى كل هذا الوجع عند الحلنقي ؟

- انا اعتقد ان كل المبدعين الحقيقيين يولدون وفي دواخلهم غربة روحية ، فمثلما تولد بعيون عسلية أو سوداء ، أو يولد الانسان بلون قمحي أو أسمر ، هناك أشياء قدرية لا تختارها انت ، كذلك الاغتراب الروحي لا تختاره انت بل يولد معك ، تحس وأنت طفل أنك في دنيا ليست دنياك ، وقد قرأت لاحد المهتمين بالابداع والمبدعين فأكد ان ذلك ياتي من درجة عالية من الشفافية ، وهي نوع من الرقة المتناهية ، ويمكنك وصف المبدع الرقيق بالقول : « يتفتت على الايادي كأجنحة الفراش» ، اذن هي رقة وحساسية مفرطة ، وبالنسبة لي فزيادة على الاغتراب الروحي ، مكونان غربة مركبة لانك اذا تخلصت من غربة الجسد يصعب عليك التخلص من غربة الروح ، لان درجة الشفافية العالية جداً لدى المبدع ، لذا تحس دوماً بان هناك غلالة شفيفة من الحزن تحيط بقلب المبدع تمنحه دوماً هذه اللوعة وهذا الشجن.

ولكن رغم ذلك انا دوماً أحاول كسر حاجز الحزن في الاغنية السودانية ، وانا مصر على وقف ساقية الحزن ، فنحن الآن على أعتاب سلام ، ونحن بصدد بهجة ونضار وتفتق وجمال ، وانا احاول من خلال عدة اغنيات ومن ضمنها اغنية المشكلة ان افك قيد الاغنية من الكآبة والهوان ، وأخلص أحبابي من هذا الحزن الدامي..

# استاذ الحلنقي .... لكل شاعر فترة خصبة من الانتاج الشعري من خلال عدة مؤثرات كيف ترى خصبك الشعري وانت تنظم الشعر منذ نعومة أظافرك ؟

حسناً ابني نشأت ، سأخبرك بشئ قد يبدو غريباً ، انا لدي القدرة على كتابة القصيدة في أية لحظة ، فقد تمر بي اللحظة التي أحسها ، وبعد ذلك أمارس كتابتي القصيدة ، ثم أفرض عليها أن تتجمل وتتجمل (مثل العروس)، وعندما امسك اللحظة الشاعرة واغوص بها في أعماقي يوماً.. يومين .. سنة ، في النهاية تخرج مني في شكل اغنية تبهج الناس ، وصراحة لم تستصعب عليّ فكرة أو تعبير. واشعر بامكاني ان اعطي جمالاً في أية لحظة أحسها ، فقط اعطني شيئاً أحبه ، انا قادر علي ان أحول هذا الشئ الذي أحببته الى درة تتمني أية حسناء أن تزين بها جيدها.

# اسحق الحلنقي ظل يتتبع الجمال وأهمل أصل الجمال .. لماذا لا تكتب اغنيات وطنية ؟

- انا كتبت للوطن ، واكتب للسودان ولا اكتب للانظمة ، ولدي اغنية « ياوطني ياحبي» وأغنية «الحب الكبير» والتي صارت شعاراً لبعض برامج القوات المسلحة ، واغنياتي كلها تتلمس الوطن وتغني له لانه أصل كل جمال ، فالشاعر المقتدر يكتب في شتى ضروب الشعر ويبدع ، وانا اصبحت اكتب اغنيات الغربة بغزارة باعتبارها اصبحت لصيقة بأنفاسي ، والشئ الذي يصبح قريباً من أنفاسك تصبح بينك وبينه إلفة ، وهي الفة ظلت خصماً على ذاتي.

# بمناسبة عودتك الى مسألة الغربة ، قرأت لك قصيدة تقول:

غليب الصدف على الدر

وبدلت العسل بالمر

وضحيت بعيون ام در

وبي مشوار مشينا عصر

وكان لسه الأماني خدر

ولسه الشمعة فيها عمر

براك انت الأبيت تصبر ..

استاذ اسحق الحلنقي ، هل يمكنني اعتبار هذه الأبيات اختزالاً لكل معاناة الغربة ، وندماً صريحاً عليها .. ؟

- نعم ... انت لمست مكاناً صعباً بداخلي ، احاول جاهداً مداواته مااستطعت ، فهذه الاغنية انا جسدت فيها احساسي تجاه الغربة وماعانيته فيها..

واين هي اغنيات كسلا تلك المدينة التي قلت عنها (كسلا اغنية قبل ان تكون مدينة) ولماذا انقطعت كتاباتك عنها أخيراً ؟

- لم انقطع عنها ، واغنيات كسلا انا اكتبها بصدق شديد جداً ، وكل اغنية احس انها تلتهب وانا اكتبها لكسلا ، وهذا نتاج لالتصاق كسلا بسويداء القلب ، فكل اغنية لكسلا فيها تميز ولها زهو بين رصيفاتها ، وقد كتبت اخيراً عن فيضان القاش :

يالقاش حرام ... ظلمك حرام

التاكا غرقان في الظلام

توتيل تضيع وسط الزحام

تاجوج مثال أهل الغرام

يوم فرحتها يبقي الحزن مسك الختام ..

والآن لدي اغنية جديدة عن كسلا ، ولكنها مازالت الآن في مرحلة المخاض الأخير..

# الاستاذ اسحق الحلنقي ، لم تشكل ثنائىاً مع فنان بعينه بل كنت مثل الغيمة التي تمطر اينما حلت ، لماذا هذ الاحتكار في الفترة الاخيرة لاغنياتك عبر الحان الاستاذ علي احمد ، وذلك مع العلم بوجود ملحنين مميزين على الساحة الفنية..؟

- انا احس ان علي احمد هو يفهمني جيداً ، وبدأ التعاون بيننا في اغنية علي كيفك ومن ثم انطلقنا ، والناس يتحدثون عن اشياء ضبابية ، ويتساءلون لماذا علي أحمد ، وانا اقول لأن علي أحمد قدر كلمتي واحس بها وتفاعل معها ، واعاد بها امجاد الاغنية السودانية في السبعينات ، ونحن في زمن أصبح الكثيرون يغنون بالأرجل وليس بالاحساس ، وتميز علي احمد بالنسبة لي انه رجل حافظ علي نكهة الاغنية السودانية ، وانا شاعر ممتلئ بالجمال ، مثلاً هذه الغرفة التي نجلس بداخلها ، إذا أطفأنا النور ليس معني ذلك أن ليس هناك جمال ، كل ما نحتاجه هو لمسة ، لنضغط علي زر النور ، وحينها يشع النور سنري الجمال ، إذن أنا قد كنت محتاجاً لتلك اللمسة ، وعلي أحمد فعلها .

وليس هناك احتكار من علي أحمد تجاه اغنياتي ، فلقد تعاملت في الآونة الأخيرة مع الملحن عبد اللطيف خضر ، وبشير عباس في أكثر من لحن ، ووردي اعطيته أغنية قام بتلحينها ، وأيضا الأخ ابو عركي البخيت الذي غني :

الله يكون في عونك ديمه

بالقسمت سنينك غيمة

ونالت صدي طيبا ، وعركي دوما مميز بالألحان الجميلة .

# الحلنقي صاحب رصيد غنائي ضخم ، وهناك بعض الأغنيات التي صعدت بفنانين الى القمة مثل أغنية «أديني رضاك» لاسماعيل حسب الدائم ، و«ياعسل» لعبد العزيز المبارك وأغنيات البلابل ، وغير ذلك من الأغنيات الذائعة الصيت، هل كتب الحلنقي أغنية أحس بـأنها ظُلمت؟

نعم .. هناك قصيدة أحس بأنها من أجمل ما كتبت ، ولكن القدر لم يساعدها لتنتشر ، وهذا ليس ذنبها ، فقد يكون لديك إبنة جميلة جدا ويتأخر زواجها أو لا تتزوج ، على الرغم من جمالها ، فهذه مسائل حسبما أعتقد أنها قدرية ، وكمثال هناك أغنية «جابتني الظروف ما جيتك» وقد تغني بها العاقب محمد الحسن ، أنا احسها أغنية جميلة جدا ، لكنها ظلت حبيسة وسط البساتين التي أحبها جدا ، وليس هناك من فكر بالسؤال عنها ، وأنا اسمعها تذاع في السنة مرة ، في حين أنها من أجمل الأغنيات ، والتي أحزن كثيرا عندما أتذكرها وأتذكر نسيان الناس لها .

# ما الجديد لدى الحلنقي ؟

«وريني زول منك نجا ... والناجي منك ما نجي» و «كل يوم عندك حكاية» لعثمان مصطفي ، و «عطشان والبحر جنبك» و «عتاب القاش» لحمد الريح ، و «الكوكب» و «جيت تفارق / بلا فارق / وشيل معاك غيم المشارق/انت ما أول مودع/ وانت ما آخر مفارق» لعادل مسلم ، و«دندن» عبد القادر سالم ، و«ضيعني معاك قلبي الأبيض» والريدة لآمال النور هذه الفنانة ذات الصوت الملائكي.

# السلام.. بعيون الحلنقي ؟

السلام أهلا بهذا الغائب العائد الينا ممتطيا صهوة السحب الحبلى بالمطر .. السلام مهرجان من الفرح الغامر يتوسد بيوتنا خبزا ونوراً وطمأنينة ...

أهلا بهذا الحبيب العائد من غابة السنط الى بساتين الحق والخير والجمال .

# أجمل ما كتب الحلنقي في :

- كسلا :

ما قلت من كسلا وناس كسلا الطيبين

- الليل :

أنا كنت من قبلك بشيل الليل دموع وأطويهو هم

- العصافير :

هجرة عصافير الخريف في موسم الشوق الحلو

- الغربة :

جيناكم يا حبايبنا بعد غربة وشوق

- الأسرة:

عشة صغيرة كفاية علينا..

 

نشأت الامام

 

راسل الكاتب