الخصخصة في السودان

 بقلم : أمجد شعبان

القطاع الخاص في الصحة والتعليم
معول هدم ُ أم معول بناء ؟

من الطبيعي إلا يختلف إثنان على أن أهم ما تبنى به الدول وتقوم عليه الأمم وأهم الإعباء الملقاة على عاتق الحكومات هي الصحة والتعليم ، فبدونهما لا قيمة ولا نفع للبشرية ، فشعب مريض بدنياً أو متخلف علمياً لا مكان له في عالم اليوم ومآله الى الزوال . وبما أن هذين المضلعين (الصحة والتعليم) في المربع الذي تقوم عليه الشعوب هما من الأساسيات التي لا تقبل الاستهانة بها أو الإهمال نجد أن جميع دول العالم تعطيها القدح المعلى في ميزانياتها للتنمية . وبما أن سياسة إقحام القطاع الخاص في كافة المجالات أصبحت اللحن الذي تعزف عليه معظم دول العالم سارت بلادنا أيضاً في ركب هذه السياسة على مبدأ ( إن أحسن الناس أحسنت) وأخذت تجارب الشعوب الأخرى ونفذتها (بضبانتها) فأدخلت القطاع الخاص حتى في الصحة بإنشاء المستشفبات الخاصة وفي التعليم بتأسيس المدارس الأهلية ، بالطبع ليس عيباً أن يشارك القطاع الخاص في هذين القطاعين دعماً لمسيرة التنمية والبناء ، لكن أن تكون هذه المشاركة عشوائية وغير مدروسة وتلقي بظلالها على الطبقة الفقيرة ! فلعمري هذا تكريس واضح للنظام الطبقي مما يؤدي إلى معضلات إجتماعية لا يحمد عقباها بدأت بالفعل تستشري في جسد الأمة السودانية .
وكما ذكرت أنه لا يقول عاقل بحجب مشاركة القطاع الخاص بصورة مجردة في هذين القطاعين لكن يجب أن تكون هنالك سياسة موازية للخصخصة ومشاركة القطاع الخاص تقضي بأن الدولة تساهم أيضاً في الارتقاء بخدمات القطاع العام من مستشفيات ومراكز صحية ومدارس حكومية ، صحيح أنها لن تستطيع تقديم ذات الخدمات التي يقدمها القطاع الخاص لشح الإمكانيات لكن يجب ألا تكون الهوه سحيقة لهذا الحد بين خدمات القطاع الخاص والعام ، فكل الدول التي سبقتنا في تطبيق الخصخصة وفتح المجال لإسهامات المستثمرين ورجال الأعمال لم تطبق هذه السياسة وتبقي القطاع العام على ما هو عليه لأن ذلك سيكرس للنظام الطبقي المذكور آنفاً بل سارعت بالارتقاء بالمدارس الحكومية وإغراء المعلمين المتميزين للعمل بالمدارس الحكومية حتى لا يتكدس هؤلاء المعلمون في المدارس الخاصة وتبقى مدارس الدولة للمعلمين حديثي التخرج وكأنها مراكز للتدريب ، وعلى ذات النحو لم تترك هذه الدول المستشفيات الحكومية بدون أدنى أجهزة حديثة كما شاهدت في كثير من المستشفيات من تدني في الخدمات ولا تكاد تجد أجهزة فيها غير (سماعات) الأطباء وأجهزة قياس ضغط الدم .
ولقد روى لي أحد الأصدقاء وهو طبيب يعمل بوزارة الصحة بمدني أن زوجته كانت في الأشهر الأخيرة من الحمل وحدثت لها بعض المشاكل المتعلقة بالحمل فأراد زوجها الطبيب أن يجري لها صور بالموجات الصوتية وبالطبع فإن المستشفى الحكومي ليست به صوتيات غير أصوات (الكدايس والفيران) فذهب الى عيادة خارجية وسأل موظف الاستقبال عن أجرة الكشف فأجابه بأنها خمسين ألفاً ، أدخل الطبيب يده في جيبه فإذا هي تخرج بيضاء من غير (فلوس) فأدخلها في جيبه الآخر فوجد ثلاثين ألفاً أعطاها للموظف وأخبره بأنه الطبيب (فلان) وأنه سوف يسدد بقية المبلغ في وقت لاحق ، إعتذر الموظف عن قبول المبلغ ودخل للطبيب (صاحب العيادة) ليفتيه في أمره فأفتاه بأن هذا المبلغ يمكن أن يلتقط به صورة فوتوغرافية في الأستديو على ناصية الشارع أما هنا فإن لم يدفع كامل المبلغ فلا كشف لهم عندي ولا هم يقربون ، أخبر الموظف الطبيب بفتوى زميله صاحب العيادة صاحب المهنة الانسانية فكان أن أمسك الطبيب بيد زوجته وخرج غضبان أسفا يجر رجليه على استحياء أمام نظرات المرضى الذين أدهشهم الموقف .
هذه ليست مشاهد من فيلم هندي ولا من مسرحية عربية إنما هي قصة حقيقية حدثت في مدينة واد مدني فبالله عليكم إن كان تعامل الطبيب صاحب العيادة الخاصة مع زميله بهذه الطريقة فكيف سيكون الحال مع المواطن البسيط ؟ فأين القطاع الحكومي من توفير مثل هذه الأجهزة ؟ وألى متى ستبقى مستشفيات الدولة خاليه من الأجهزة الضرورية والتي لا يمثل ثمن شرائها مبلغاً مهولاً يفلس خزينة الدولة .
أما بالنسبة لقطاع التعليم فحدّث ولا حرج !! صاحب المدرسة الخاصة هو الآمر الناهي وهو الذي يعين ويوقف عن العمل ويفصل ويعاقب المعلم بل والمدير الأكاديمي (على مزاجه) ، وهو الذي يضع سياسات المدرسة فمثلاً (إذا أم العيال) نكّدت عليه من الصباح يأتي الى المدرسة ويعاقب الطلاب بطابور صباحي شبيه بطابور تسعه أقصد (تزعه) عند العساكر ، ويمكن أن يجعل بكلمة واحدة حصة الجغرافيا تاريخ وإحتمال في مرحلة متقدمة يجر الفاعل وينصب المبتدأ دونما أية اعتراض من معلم اللغه العربية الذي يداري على أكل عيشه ،، يتصرف صاحبنا صاحب المدرسة الخاصة كيفما يشاء دونما ضوابط من وزارة التربية والتعليم التي (تنفض) يداها من المدرسة الخاصة بعدما يدفع صاحبها الجزية للوزارة فلا رقابة على تعيينات المعلمين أو المدير أو فصلهم ، وتركت الوزارة مسئولية رسم السياسات التربوية في هذه المدارس لرجال لا يفهمون غير لغة المادة ومعظمهم من النوع الذي تجد جيبه (مليان) وعقله (فاضي) فلا حس تربوي ولا أسلوب في معاجلة القضايا الخاصة بالمعلين والطلاب ، فأي جيل ننتظر أن تخرجه لنا مثل هكذا مدارس ؟ ولماذا لا تتدخل الوزارة كما في نظام المملكة العربية السعودية مثلاً تتدخل الوزارة في أي كبيرة وصغيرة في المدارس الأهلية ولا يتم تعيين معلم أو فصله إلا بموافقة الوزارة وأن يكون المدير الأكاديمي هو المدير الفعلي للمدرسة وليس كما هو الحال حالياً وجوده مثل عدمه ، وأن يعطى الصلاحيات تأسياً بـ (أبو قريع) وأن يكون له الحق في رفع التقارير للوزارة عن أي مخالفات في التعيين أو الفصل أو السياسات التي يقوم بها صاحب المدرسة .
هذه الكلمات أردت أن أصرخ بها في آذانكم علها تجد طريقها إلى عقول القائمين على أمر التربية والصحة في بلادنا والذين قاموا برسم سياسات فتح الباب على مصراعيه أمام مشاركة القطاع الخاص من أجل البناء والتنمية دونما مراعاة الضوابط التي تجعل من تطبيق هذه السياسة هدماً إجتماعياً وتربوياً بدلاً من أن تكون معولاً للبناء .

أمجد شعبان

 

راسل الكاتب