الموسيقار بدر التهامي

نقلها لودمدني / أحمد محمد المبارك 

يا سلام عليك يا موسيقار يا رائع

  الموسيقار بدر التهامي يسوقنا إلى رحلة فنية عامرة بالعطاء .. بدأت في عام 1925م في مدينة ود مدني .. آنذاك كان بدر التهامي شابا يعتمد عليه فعهد إليه والده العمل معه في الحواشات وهو رعاية انسياب المياه في الترع وعزق الأرض بالطورية .. يفعل ذلك راضيا مرضيا .. وفي صباح يوم من أيام العام 25 وهو بالضفة الشرقية للترعة الرئيسية .. سمع لحنا سرعان ما شده فارهف السمع وملكه سلطان الطرب فذهب يقتفي أثر اللحن حتى كان أمام مصدره رجال يلتفون حول رجل يعزف ربابة وكانت تسمى آنذاك ( أم كيكي ) وكان بها وتر واحد.

   بدر التهامي يقول ،وعرضت عليهم شراء الربابة حتى بلغ الثمن عشرين قرشا وكان ذلك مبلغا له رقم اقتصادي مميز بعدها تم تمليكي الربابة ذات الوتر الواحد وشدت عليها وترين آخرين ثم زدتهم واحد فأصبحوا أربعة أوتار وبذلك استطعت أن استنبط منها الألحان التي ترضي غروري الفني وعزفت عليها مضامين الأغاني التي كانت الربابة تقوم بترويجها ثم عزفت أنغاما على شاكلة :

                    يا خيتي يا بت أمي

                   نور قلبي سلبت

ولكن رغم الأ وتار التي أدخلتها على الربابة إلا ذلك لم يشبع رغباتي الموسيقية التي كانت تبحث عن اللحن العبقري حتى لم كان خشب الربابة تلك مصنوعا من أخشاب الأبلكاش لذلك أصدرت أصواتا جانبها النشاز وجافتها رقة اللحن المنشود .. ثم قررت بعد ذلك أن أدخل إلى عالم الكمنجة وتوجهت إلى الخواجة ميشيل تيرزو وكنت قد تركت العمل في الحواشات وانضممت إلى العاملين بمستشفى ود مدني ودرست التمريض .. ومن الخواجة ميشيل إلى الخواجة أنور الذي علمني السلم الموسيقي الغربي :

     دو ري مي فا صول لا سي

 وطلب مني أن أقولها بالعربية  وحقيقة الأمر قد أفدت كثيرا من ألخواجة أنور واستطعت أن أحتوي تلك الآلة البنية اللون الساحرة وأعزف عليها ما أشاء .. ولما ملكت مائة وخمسين قرشا اشتريت آلة كمنجة .. وعزفت كل الأغاني التي ألفها الأستاذ علي المساح وأول من عزفت له أغانيه الفنان محمد الشبلي أحمد سليمان .. كما عزفت مزهوا روائع ذلك الزمان مثل : 

  أنت بدر السما في صفاك

   زمانك والهوى عانك

  زهر الربيع لون الطبيعة

  نسائم الليل

ولما سكن اللحن الفؤاد وكنت ممرضا كما ذكرت كنت من حين لآخر أعزف مقطوعات متنوعة مما جعل المرضى يلتفون حولي .. الشيء الذي ألب الإدارة الطبية علي فشكوني للمفتش الإنجليزي بحجة أني اسبب إزعاجا للمرضى وأمتثل المفتش لامرهم وطلب منهم حينما أعزف ألحاني أن يخبروه .. وفي مساء يوم خريفي رائع بدأت أعزف فتسلل المرضى من أسرتهم يتمايلون طربا وكان المفتش ساعتها متخفيا وراء ستار وبمحض الصدفة كنت أعزف المارشات الإنجليزية والمصرية التي حفظت ألحانها حينما كانت زفة رمضان تجوب شوارع مدينة ود مدني وتقدم نحوي المفتش  وسألني أين تعلمت الموسيقى فأخبرته بتجربتي فأعجب بها وأحبر إدارة المستشفى أن ما يعزفه بدر موسيقى وليس إزعاجا .. وطلب من في التو أن أذهب إلى عنبر واحد وأعزف لهم لأن به كثير من المتألمين .. وطاب لي  المقام في مستشفى مدني

    الموسيقار بدر التهامي وعازف الكمنجة الشهير يعود بنا إلى الوراء قليلا وبالتحديد إلى عام 1938م يقول وبكل فخر أن أول فنان عزف له هو الشبلي وفي ذلك الأثناء كانت للأخ عثمان أبو بكر رجب فكرة تكوين أوركسترا وسرعان ما وجدي الفكرة هوى في نفسي فدعونا لها وكانت المحصلة مشرفة للغاية وكان العازفون على آلة الكمان هم عثمان أبو بكر رجب وعبد المنعم عبد السلام وعلى الحويرص . ثم أنضم إلينا المهندس عبد الرحيم البوشي وهو أول من أدخل آلة الأورغن ، ثم إسماعيل أبو السباع يعزف الكارنيت ومحمد أبو بكر رجب على الأكورديون وكان الطيب عبد الله الكارب يعزف على آلة العود .. أما إيقاع الطرمبيت فكان يعزفه عازف ماهر من موسيقى البوليس وبذلك أكتمل مجموع الأوركسترا التي ولدت ناضجة صاحبها المطربان الرائعان ( الشبلي والكاشف ) وعزفنا ما شاء لنا أن نعزف وتلقينا دعوة كريمة من مؤتمر الخريجين ، وشددنا الرحال إلى العاصمة ورأينا المناضل الجسور الأستاذ أحمد محمد خير المحامي نجما يسطع في سماء بلادي يفتتح المؤتمر بكلمة فيها الرجاء والبسالة والدعوة إلى التحرير .

    هكذا يتحدث الموسيقار بدر التهامي ويتذكر تلك الأيام من زحم وطني مشتعل ويقول : بعد أن انتهى المناضل أحمد خير من كلمة الافتتاح أشير لنا أن نبدأ وظهرنا لأول مرة نغني للوطن فجاء نشيد   

 صه يا كناري

  ونشيد صرخة روت دمي

  ثم نشيد للعلا

ولن أنسى الجمهور الذي كافأنا بحماسة وإعجابه .. وليتكم كنتم معنا في تلك الساعات المشرقات .. حينما عزفنا تلك الأناشيد الخالدة وكان الفنان الشبلي والفنان إبراهيم الكاشف ققبسين جاءا من بلاد الفن والطرب والوطنية أي من مدينة ود مدني التي أهدت الأوركسترا الأولى .

  ولن أنسى أبدا الفنان الراحل حسن عطية ، الذي أعجب بالعزف وطلب منا أن نبقى في العاصمة حتى تفتتح إذاعة أم درمان أي بعد سنتين من العام 1938م فأخبرته أن هؤلاء العازفين مرتبطين بأعمال ولا يستطيعون البقاء في العاصمة . ورجعنا من حيث أتينا وفي العام 1939م ظهرت بوادر الحرب العالمية الثانية وتشتت الجمع وكان الفنان الشبلي يومذاك قد عين في الجيش برتبة شاويش وسافر إلى الحبشة مجندا . أما الفنان إبراهيم الكاشف فقد راقت له فكرة الغناء الثنائي فأخبرني أنه يغني مع مصطفى الشيخ إسماعيل وكنت قبل ذلك أصحب الكاشف في كل الحفلات التي يدعى إليها يصحبنا الفنان أحمد حسن الغفاري الذي يجيد العزف على آلة البانجو فقال:هي آلة تشبه الربابة بها أربعة أوتار وتملك صوتا رخيما يسر السامعين وأغلب الظن أنها مجلوبة من أوربا .

  الموسيقار بدر يتحدث عن الطنبور فيقول : يتكون من آلتين إن صح التعبير هما العصا والزجاجتين الفارغة . فالعصا توضع على الأرض يرفع طرفيها حجران ، وهي تبعث نغما حين تضرب بعصا أخرى ، بينما توضع في الجانب الآخر زجاجات فارغة يضرب عليها بالمرواد، وضرب العصا بعصا أخرى يتكون بذلك نغم يصحبه الكورس المغني يطنبرون بحلاقيمهم بينما المطرب الشهير ود السيد يغني واضعا يده اليسرى على أذنه تاركا يده اليمنى لتعينه على الوصف .

  يقول الموسيقار كان عمري آنذاك عشر سنين حينما عشت وشاهدت الطنبور وكان ود السيد ملك الطنبور في مدني .  بينما كان ملك الطنبور في أم درمان ود الفكي القادم من الشمالية ومن أمثلة أغاني الطنبور آنذاك

       نار أم برعة  سراجة

       في الأيدين ظريف عاجا

وغنى أيضا :

     جات تتمختر العرجونة

     الماكلانا فتونا

وقال :

   جنا الوز العام   يا سلام

 

يا سلام عليك يا موسيقار يا رائع .  

 

 

راسل الكاتب