( شيخ العرب )

أحمد الطيب أحمد 1903-1993م

الإهداء إلي كل الناس وإلي زوجتي وبنتي عائشة وإبني أبراهيم وبصفة خاصة إلي إبني أحمد

قمة قمم مواقفه:

في عهد عبود كان رئيس الجالية اليمنية في السودان- العم يحيى حسين- يعيش في مدني، واصبح من مواطنيها، يشارك اهل مدني افراحهم واتراحهم، وكان معارضاً لحكم الإمام في اليمن، طلبته السلطات اليمنية من حكومة عبود لاعدامه، فأرسل عبود رجال الأمن لخفره للخرطوم تمهيداً لنقله الى اليمن فوراً.

داهم رجال الأمن منزله في الرابعة فجراً واقتادوه الى الخرطوم، جاءت زوجته لزوجة شيخ العرب في نفس الوقت واخبرتهم بما حدث، ذلك شيخ العرب لمدير شرطة مدني موريس سدره الذي لم يكن عنده علم بما جرى، فاتصل بالخرطوم وعلم بأنه العم يحيى مطلوب تسليمه في اليمن، واخبر شيخ العرب بذلك.

جمع شيخ العرب زعامات العمل الوطني في مدني وكل الوان الطيف السياسي؛ نقد الله من حزب الأمة، وموسى الفادني من الاتحادي الديمقراطي، الشيخ ابو زيد شيخ الجزارين، ورجل الدين المعروف شيخ الجيلي، وقاد الوفد شيخ العرب الى الخرطوم لمقابلة الرئيس عبود، وسهل لهم المقابلة المقبول وزير الداخلية (وهو من ابناء مدني)، وقالوا لعبود: لو سلمت حسين للسلطات اليمنية فلا تعتب رجلك ود مدني، فاستجاب عبود لطلبهم وافرج عن الرجل وأرجعه لمدني.

29سبتمبر1993م مساء الاثنين يوم حزين في مدني:

كان يوما غير عادي في حياة الرجال؛ داهمته الملاريا اللعينة- التي وصفها أبو الطيب المتنبي-؛ والأسرة كلها حوله وكنت أنا حينها بالسعودية وأخي الأصغر علي بألمانيا، وكان شيخ العرب يسأل عنه وعني، ومتي رجوعنا ، والمطر ينزل بغزارة وكأن السماء ترحب به ؛ وبالقرب منه؛ أخته ( ريا ) وأبن أخيه حسن حميده وحفيده شوقي، وقبلها بيوم أحضر شيخ العرب ثلاثة أكفان وقال لزوجته ( صفية ) واحد لي والاثنان لمن يموتون بعدي ؛ كان مستلقيا خالفا رجل علي رجل كعادته دوما يصلي بإصبعه ويسبح به، فجأة قررت أخته ( ريا ) الذهاب إلي منزلها لأن المطر بدأ يهطل بغزارة واستأذنته للذهاب إلي منزلها ؛ فرد عليها ضاحكا لا تذهبي فالتلفون سوف يرن بعد قليل ؛ فقالت ماذا تقول ؛ وبعد قليل رن التلفون وتشهد بإصبعه وصعدت روحه الزكية إلي بارئها لتستقر مع الصديقين والشهداء ؛ إنا لله وإنا إليه راجعون.

لحظات التشيع :-

سري الخبر كالهشيم في النار؛ وغطت المدينة غمامة حزن ؛ وذبل الورد؛ ونام الشجر وهو حزين؛ النساء والأطفال والرجال بكوا كما لم يبكوا من قبل؛ حتى الحيوانات أصدرت أصواتا غير مفهومة ؛ وتجمع الناس- كل الناس- أمام منزله بود أزرق وهم واجمون؛ وتقرر دفن الجثمان الساعة الثامنة صباحا ؛ وخرجت المدينة كما لم تخرج من قبل ؛ وقال حكماء مدني بأنه لم يحدث في تاريخ المدينة أن خرج الناس كما خرجوا في تشييع ( شيخ العرب) كان يوما مشهودا في تاريخ المدينة ؛ ولكل مدينة لحظات تاريخية ومجيدة تعيشها؛ إما لحظات حزن أو لحظات فرح ؛ إنها لحظات أشبه ما تكون بلحظات الوعي التعيس ؛ ودعني أكون أكثر تحديدا فأقول :

1.                            كان أول صف المشيعين بود أزرق (منزل الفقيد) وآخرهم بمقابر ود مدني والمسافة تقدر ب 7كيلو.

2.                             عادة تتم الصلاة علي الميت بالمقابر، ولكن ما حدث في شأن ( شيخ العرب ) لم يحدث بتاريخ المدينة ؛ إذ تمت الصلاة عليه بميدان (بانت) وهو ميدان يقام فيه المولد للرسول عليه الصلاة والسلام ؛ ونسبة للعدد الهائل من البشر فقد صلي عليه بميدان ( بانت ) وهو الحدث الأولى من نوعه في تاريخ مدني.

3.                            سأل حاكم مدني وقتها ( العوض) موجها السؤال للأخ عبد العزيز عبد المنعم (هل هؤلاء سكان مدني؟) وأين كانوا ؟

4.                            في منزل الصديق العزيز معاوية حمد قابلت الحاكم العوض (هناك علاقة عائلية بينهما) وسألني الحاكم بعد واجب التعزية ؛ قائلا (إن الجماهير التي شيعت والدكم لو ساندت الإنقاذ فإنها سوف تستمر 20سنة).

5.                            قبل وفاته بيوم سلم زوجته ثلاثة أكفان قال واحد لي والآخران لمن يموتا بعدي ؛ وفي اليوم الثاني توفي ؛ وفي اليوم الثاني والثالث لوفاته لحقه شخصان.

6.                            المواطن الوحيد بمدينة مدني الذي تم تصوير نعشه والتشييع بكاميرا التلفزيون الحكومي.

7.                            المتوفى الوحيد المدني الذي أذيع نبأ وفاته أكثر من خمس مرات- سواء كان ذلك بتلفزيون الجزيرة او التلفزيون المركزي أو الراديو.

 ما قبل الخاتمة:-

من الصعوبة بمكان أن تقول لشخص ما أكتب عن والدك، لاسيما إن كان هذا الوالد شخصية غير عادية؛ وأبي هو أنا- وإن كان الجلباب مختلف اللون فقط- ولكن حينما اتصل بي الأخ والصديق العزيز عمر سعيد النور صديق الطفولة وشرح لي الفكرة شعرت بفخر كبير وشعرت بأن مدني ما زالت عملاقة رغم التشويه الذي أصابها من أهل الإنقاذ فلهم العتبى ؛ مضت علي وفاته 8 سنوات ولم يكرم ولم يطلق اسمه على شارع من شوارع المدينة التي كان يزرعها جيئةا وذهابا (يا أمة ضحكت من أجلها الأمم) ولكن جاءت الفزعة من أبناء مدني بإقامة صالة بالملكة العربية السعودية ( بالرياض ) بإسمه.

من أسرتي كل الحب والود والتقدير إلي أبناء مدني بالرياض وعلي القائمين بالأمر نخصهم بالحب الكريم النبيل.

هذه الصفحات عبارة عن خواطر عنت علي بطلب من نفر كريم وهي ليست توثيق ؛ فالتوثيق يكتبه المحايدين فأنا لست بمحايد ؛ إنه ليس مجرد أب بالنسبة لي إنه تاريخ مجيد في حياتي.

خاتمة:-

كان طويلا عالي الرأس كصاري المركب ؛ شفافا كالدمعة ، عاش شيخ العرب حياته بالطول والعرض سمي أب (شجرة )، وأختفي هذا الاسم وسمي بشيخ العرب ؛ حياة حافلة بالإنجازات والعمل المفيد النافع والذي نسأل الله عز وجل أن يكون رصيدا له في الآخرة. لم يحدث في التاريخ القريب والحديث ان يضرب المجانيين عن الطعام عند وفاة شخص ما ولكن في سجن مدني أضرب المجانيين عن الطعام وبكوا. والسؤال موجهه إلي علماء النفس هل يضرب المجنون عن الأكل ويحزن؟ هل يدرك ذلك؟ مازلت أتأمل هذه الظاهرة عند ما أقرأ سيرة ( ابو البشر الحافي ) (والذي تتساوي عنده الحصي والدرر فأتذكر والدي أنه شبيه بأبي بشر الحافي لقد طلق الدنيا وتزوج الاخرة، بالمناسبة كان شيخ العرب يمشي أحيانا  حافياً.

قال لي شيخ الجيلي ود صلاح ذات مرة بجدة - وهو من العارفين بالله ومازال حيا- (أن شيخ العرب كان من أولياء الله الصالحين دون أن يدري، فبعض الصالحين لا يظهرهم الله في حياتهم ولكن يظهرون في مماتهم، والقصص كثيرة ولا أريد أن أتعرض لها حتى لا أوصف بالغيبيات والكهنوت في عصر العولمة والإنترت؛ لكن أسألوا خليفة حميدة وحسن يحي الضابط الإداري بمدني ومحمد خير بالدباغة والأستاذ إسماعيل بالدباغة والذي حمل آلة حادة موجهها للوالد لضربه فظهر له ما ظهر ولم يستطع توجيه الآلة الحادة له، اسألوا فهمي البوشي ) ماذا شم المشيعون عندما واروا جثمان زوجته صفية بالقرب منه بعد 6 سنوات من وفاته ؛ولحسن الحظ فكل هؤلاء علي قيد الحياة. إن حياته مليئة بالمثير، إمتدت من 1904حتي 1993م 90 عاما حافلة كما ذكرنا بقيم وكرامات تذكرنا بالصحابة.

علمني الكثير مباشرة وتعلمت منه الكثير دون أن يدري فكان قليل النصيحة للآخرين وكان يعتقد سلوكه الشخصي نصيحة جاهزة للآخر؛نصائحه لي نادرة جدا؛ وذات مرة وبدون مقدمات قال لي :- يا بني ( أ ) أفعل أي شيء وقد يهديك الله وتعود إلي رشدك، ولكن لا تكذب فالكذب يصبح من شخصية الإنسان ومن الصعوبة بمكان الرجوع عن عادة الكذب إنه مرض صعب الرجوع منه. ( ب ) يا ولدي خليك صغير القوم.

يا رب أجعله مع الصحابة وأدخله الجنة مع الصديقين والشهداء وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

محمد شيخ العرب

 جدة 2 ابريل 2001م

راسل الكاتب

الصفحة الاولى