الأســتاذ / محجوب على عمـر جانقـي

بقلم / عمر سعيد النـور

 

 تناولنـا  في الحلقة الماضية سيرة شيخنا عبدا لعال خوجلى ـ عليه رحمة الله ـ ونخصص هذه الحلقة للحديث عن أستاذ الأجيال / محجوب على عمر جانقي ، هذا الرجل الذي كان يتمتع بميزات وملكات متنوعة ومتعددة  ، كان شيخاً من الشيوخ الكبار المؤسسين لحلقات الذكر والتلاوة بالمدينة ، وكان تربوياً من الطراز الأول ، كما كان رياضيـا عاشــقاً ـ حتى النخاع ـ لسيد الأتيــام ( الأهلي ) .

ولد الأستاذ / محجوب على عمر جانقي بمدينة ودمدني في عام 1922م ، وهو في الأصل من قبيلة الرباطاب ، حيث ما يزال جانباً كبيراً من أبنـاء عمومته وأهله يقيم بكبوشـية.

 درس بمدرسة البندر الابتدائية ، وكان زملاء الدراسة المهندس محمد عبد الكريم عساكر والصادق أبو عاقلة خوجلي والأستاذ محمد على عثمان موسي والأستاذ / محمد جادكريم عليهم رحمة الله ، ومن الدفعة أيضا الأستاذ / محمد عثمان النـو ، والأستاذ / عباس شدو وعثمان أبو قرط وخالد خضر .

منزل الأسرة كان بشارع البحيرية جنوب منزل الحاج بابكر أحمد بدري ـ رحمه الله ـ .

كان متميزاً في دراسته ومتفوقاً مما أهله للالتحاق بكلية غردون التذكارية ، التحق بعدها بإدارة مشروع الجزيرة ( مفتش قيط ) وذلك في العصر الذهبي للمشروع ، وتنقل في العديد من ( تفاتيش ) المشروع ، ولو أستمر في المشروع لوصل لمنصب المدير الزراعي ، ( حيث كان متميزاً بين زملائه ) .

 ولان المشروع كان يبعده عن المدينة التي أحبها وعشقها ، فقد تقدم باستقالته من المشروع ، ليلتحق بعدها بوزارة المعارف معلماً بالمدرسة ( الأهلية المتوسطة ) ، حيث عمل إلى جانب كوكبة من خيرة أهل العلم والتربية أمثال الأستاذ / مصطفي ( أبو شرف ) ـ أطال الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية ـ والأستاذ يسن عمر الأمام والأستاذ يوسف محمد عبد الله الكارب ـرحمه الله ـ والأستاذ / صديق فراج والأستاذ / الزبير تميم الدار علي ، والأستاذ حسين شدو والأستاذ الريح الليثي ـ رحمها الله ـ وكانوا بحق عمالقة ، ولذلك فقد كانت المدرسة الأهلية من أميز المدارس المتوسطة على مستوى القطر ، حيث جعلوا لها إسـماً وصيتاً . أنتقل بعدها للعمل بالإدارة العامة لرئاسة وزارة التربية بود مدني ، وكان مثالاً للنزاهة وعفة اليـد ، ويرجع له الفضل ـ بعد الله تعالي ـ في قيام مطبعة الولاية ، ومن ثم تطويرها وتحديثهـا  لذلك فقد حفظ له الســيد / عبد الرحيم محمود ذلك فعينه رئيساً لمجلس إدارتها ، وظل يحتفظ بهذا المنصب حتى لحظة وفاته ، وأذكر من أفكاره التي وجدت طريقها للنور ـ في عهده ـ  تنفيـذ خط إنتاج الكتاب المدرسي والكراسات بالمطبعة . كما عمل رحمه الله مديراً للمرحلة المتوسطة بالولاية ، كان خلالها موضع إحترام الجميـع ، وكان مضرب المثل في إحترام العمل  فهو أول من يدخل الوزارة ، وآخر من يغادرها . وقد أتيح لي شرف العمل مع الأستاذ محجوب عندما كنت منسـقاً للجان الاستشارية للترقيات تنفيذاً للقرار الوزاري ( 81 ) بجعل الولاية الوحدة الام للترقيات من المجموعة الخامسة فما دون ، وقد استفدت من توجيهاته السديدة وعلمه الغزير وتجاربه الثرة أيما استفادة ، ومما لاحظته عليه أنه وأن كان المسئول الأول في الإدارة وكانت تتبع له سيارتان ( دبل كاب ) جديدتان إلا أنه لا يستخدم سيارة العمل في الأعمال الخاصة إطلاقاً ومهما كانت الظروف ، فهو مثلاً يأتي للوزارة من منزله بسيارته السيهان ، كما يستخدم هذه السيارة ( الخاصة ) ، في توصيل وإحضار ابنته حنان ـ رحمها الله ـ من الجامعة ، وللمبالغه أذكر أننا كنا في إحدى جولات العمل بمنطقة رفاعة ، وفي طريق العودة حدثنـا الأستاذ / كمال عبد العزيز عن رغيف فرن ( بادي ) الجديد ، وكيف أنه ينتج نوعيات ممتازة من الخبز ، فأنتظر       ـ رحمه الله ـ حتى وصلنـا الوزارة    ( بعد انتهاء موعد الدوام ) ، ثم ركبنا معاً سـيارته الخاصة لشراء الخبز من ( فرن بادي ) ، وكان في مقدوره ـ وهو المسئول الأول ـ  أن يطلب من السائق أن يعرج بنا على المخبز ، ولكنه لم يفعلها ، وهكذا هو دائماً ، ينأى بنفسه عن مواضع الشبهة ، فقد كان ـ رحمه الله ـ مهتماً بأخرته ، جعل تفكيره فيما يقربه إلي الجنة ويباعده عن النار ، وبذلك يجتمع أمره ويمتلئ قلبه غنى .

إن تاريخ مدينة ودمدني يحفظ للأستاذ / محجوب على عمر دوره المشهود في العناية بالقرآن الكريم ، وتشجيعه قيام جمعيات التجويد والتلاوة ، فقد كان رحمه ( اليد اليمني ) للشيخ عبدالعال خوجلى مؤسس الحلقات بالمدينـة ، وقد ساعد بعلاقاته بأهل القرار والمال في تذليل كثير من العقبات ، كما يرجع له الفضل ـ بعد الله تعالي ـ في بناء الدار الحالية للقرآن الكريم والتي تبرع بكامل تكلفتها رجل البـــر المعروف بود مدني ( بابكر سـالم أبو سـنون )  ـ رحمه الله ـ فقد كانت تجمعه علاقة حميمة بالأستاذ محجوب على عمر ، وكان ـ الأستاذ محجوب ـ هو أيضا صاحب فكرة  المهرجان السنوي للقرآن الكريم بمدينة ودمدني . وكما ذكرت في حديثي عن سيرة الشيخ عبدالعال خوجلى ، كانت من أشهر حلقات الذكر والتلاوة بمدينة ودمدني حلقة الأستاذ محجوب على عمر بمنزله بحي الموظفين شرق جامع الصائم ديمة      ( يومي الأربعاء والجمعة ) .

وكان أستاذنا محجوب على عمر كريما لبقاً مهذباً يحرص على راحة الجميع ، حيث يصر نهاية الدرس ـ عقب صلاة العشاء ـ على تناول الجميع للبليلة بالتمر ، إلى جانب الماء المثلج ، والشاي المنعنع ، تسـاعده في ذلك زوجه الحاجة بثينة وأبنته حنان ـ عليهم جميعاً رحمة الله ـ   .    وقد سـرني جداً أن أبناءه ( صلاح ودكتور معتصم )  قد داوما من بعده على ما كان عليه والدهما ـ رحمه الله ـ ، والي يومنا هذا يجتمع الناس من أماكن متفرقة من المدينة بمنزل الأستاذ محجوب الجديد بحي المطار شارع مظلة خالدة ، بعد صلاة المغرب ( الأربعاء للتلاوة ، والجمعة لدرس الفقه من الأستاذ عبد الكريم ، والتفسير من الباشمهندس عثمان محمد خير ) ،  شـيخ عثمان أشتهر بالحرص الشديد والدقة والهدوء المحبب للنفس ، ومثل ما كان مهندسـاً لا يشـق له غبـار ، كان أيضاً أسـتاذاً  ـ في تواضع وتهذيب ـ في تفسير القرآن الكريم يستعين بكتب التفسير المخصصة كتفسير ابن كثير ، وتفسير عبد الرحمن بن سعدى وتفسير أبي بكر الجزائري وغير ذلك من الكتب ، وكان شيخ عثمان ( دوشي ) رجلاً متمكناً ، جمع بين العلم والإيمان فنعم الجمع هذا .

ولان أستاذ / محجوب كان رجلاً متعدد المواهب ، فقد كان رياضيـاً من الطراز الأول ، يلم بكل كبيرةٍ وصغيرةٍ مما يحدث بالوسط الرياضي ، وهو محب للنادي الأهلي بصورة لم أرى لها مثيلاً ، ومحب لمدينـة ودمدني لدرجة التعصب ـ في غير جاهلية ـ يداوم بشكل يومي على الحضور للنادي  عقب صلاة العشاء ، وفي هذا الوقت وبعده يبدأ رفقاؤه في ( التربيزة ) في التجمع ( صالح عجدابي  ، الأستاذ / محمد على عثمان موسي  الـ king ـ عليهما رحمة الله ـ الحاج صالح أحمد ابوعموري ، دكتور خالد الكومي ، محمد الحاج ( الصائغ ) والأستاذ / طه عابدين ) ، وكان دكتور الكومي ، لا ينسي أن يحضر معه كميات وفيرة من تسالي ( خديجة الرائقة ) ـ كانت اشهر بائعة تسالي بمدينة ودمدني ـ مكان جلوسها أمام الواجهة الأمامية لسينما الخواجة في مقابل طلمبة موبيل ، أشتهر عنها أنها كانت تخاطب الزبون بعبارة ( أهلاً يا الرائق ) ، وأعتقد أن الأصل في تسمية زبائنها بهذه الصفة أن جلهم كانوا من أصحاب العربات الفارهة ـ يا ترى أين أنت الآن يا الرايقة ؟ .

قلنا أن د. كومي كان يأتي بكميات وفيرة من التسالي لجماعة التربيزة ولغيرهم من أعضاء النادى . ويستمر هذا اللقاء حتى العاشرة عندما ينفض السامر . كما كان الأستاذ محجوب يحرص حرصاً شديداً على دخول المباريات التي يكون طرفاً فيها ( سيد الأتيـام ) ، أو منتخب مدني ، ومع ذلك لا يتغيب عن النادى الأهلي فقد كان يحرص على الذهاب للنادى عقب المباراة ، أو عقب الشوط الأول ـ إذا لم يكن الأداء بالصورة المطلوبة ـ فيلتقي الجماعة ثم يشترى ( الرغيف ) من فرن اليماني بالسوق الجديد ، ويعود غافلاً لمنزله .

الأستاذ محجوب كان إلى جانب كل ذلك اجتماعياً ومجاملاً من الطراز الأول ، يسارع لتقديم واجب العزاء في كل عزاء يسمع به ، ـ وإن لم يكن يعرف أهل المآتم ـ ، كما كان حضوراً متميزاً في المناسبات السعيدة ( العقد ) ، لا تخطئه العين بجلبابه الأبيض الناصع ولفة العمة الأنيقة ، وطلعته البهيـة .

لم أحضر وفاة أستاذي الجليل محجوب ، فقد كنت وقتها في الحج ( العام 1993 ) ، وكان آخر عهدي به عندما جاء لوداعي بالمنزل ظهر اليوم السابق لسفري ومكث بيننـا وقتـاً ليس بالقصيـر وكأنه كان يودعني وأنا لا أدري ‍؟  . وعن وفاته حدثني أخي حمدنا الله علقم بأنه كان مرافقاً للفقيد العزيز ، حتى العاشرة مساءاً ، إذ اجتمعا في مناسـبة زواج ، وبعد العشاء تفرقا ، وفي ساعة متأخرة من ليل الخميس حضر إليه أحد الأخوان لينقل له خبر وفاة الأستاذ محجوب ، وقد حدثني هذا الصديق من أن حشـوداً ضخمةً من أهل المدينـة قد حضرت لتشـييع جثمانه الطاهر لمثواه الأخير ، وقد قدر لي أن أحضر في اليوم الثاني ـ يوم رفع الفراش ـ وكان الحضور كبيراً ، الشيء الذي اضطررنا معه لاستخدام الفضاء الكبير شمال منزله بشارع مظلة خالدة ، ومع ذلك فقد ضاق المكان بالناس .

عقب وفاته تكونت لجنة للتحضير لتأبين الفقيـد العزيز  برئاسـة طيب الذكر الأستاذ الجليل / يوسف الكارب ـ عليه الرحمة ـ وكنت مقرراً لتلك اللجنة ، فجرى إقامة حفل التأبين بدار المهندس بالحي السوداني ، وقد توافد الناس من أهل المدينة وغيرهم من كل حدب وصوب ، حيث شارك فيه الأستاذ الجليل أبو شرف والذي حضر خصيصاً من الخرطوم ، وجمع غفير من رجال التربية وأهل العلم والرياضة ، قدمت من خلال الحفل قصائد من الأستاذ أبو شرف والذي تحدث حديثاً طيباً عن سجايا وأخلاق الفقيد العزيز ، ونظم فيه قصيدة هي من الروائع ، كما قدم الأستاذ/ صديق فراج قصيدة أخرى لاتقل روعة عن تلك التي قدمها الأستاذ أبو شرف ، وقدم الأستاذ محمد على عثمان موسى كلمة مؤثرة للغاية ، وكذلك الأخ الأستاذ عبد الحميد الفضل مدير مطبعة الإقليم والذي كانت تجمعه بالفقيد علاقة حميمة للغاية ، قدم كلمة رصينة من الدرر .

وبحق فأن الأستاذ / محجوب على عمر جانقي رجل لا يتكرر .

 

راسل الكاتب