9 - 2

كروان السودان الراحل

بقلم : صلاح الباشا... الدوحة

    مصطفي سيد احمد والغناء للوطن

 بمناسبة حديثنا سابقاً عن فعاليات المنتديات الثقافية بالسودان ، سوف نرسد مثالاً راقياً حول تلك المنتديات... فقد كانت فرصة عظيمه أن دعاني  إبن أختي (الرشيد حميده ) في الخريف الماضي خلال إجازتي بالسودان ، دعاني إلي أمسية في منتدي الخرطوم جنوب ، وقد تجمعت في ذلك المساء الخرطومي  سحائب خير وبركة ولعله المُزن، فكانت السماء تحتقن بتجمعات سحائب أمطارخريف قد تأخرهطولها ، وأتت رائحة دعاش جميل ليخفف من وطأة السخونه المنسحبه من باقي نهار كان حاراً في الخرطوم وقتذاك،وربما لا تجعلك تلك السحب مفرطاً في التفاؤل بأن الأمسية ستعدي علي مايرام في طقسها المتقلب ذاك، فتواصلت نسمات الدعاش تهب من شمال الجزيرة ليتساقط رزازاً ناعماً لم يمنعنا متعة الذهاب لمشاهدة حوارات المنتدي النديانه بالخرطوم ثلاثه، حيث كان من ضمن ضيوف المنتدي الأستاذ الشاعر المجدد والمتجدد أزهري محمد علي الذي تحدث عن التجربه... تجربته ومشواره مع الكروان مصطفي سيد احمد ، كان حديث أزهري ينم عن مقدرات إبداعية تعكس بريقاً متوهجاً وتعطي مؤشراً قوياً بأن هنالك حزمة فرسان يكتبون بهذه اللغه الجديدة التي تم سبرغورها بكثافة هائلة مؤخراً ، وقد سار علي ذات النهج معظم (أهل الإبداع في بلادي) ، وفي ذلك المنتدي الذي كان يضم الجنسين من شباب الحي المترابط والمثقف والواثق من نفسه تماماً و الذي إفتقد كروانه العجيب الذي كان بمثابة عموده الفقاري في سنوات عافيته بالسودان،وقد تحدث مقدم الندوة الأستاذ أمير التلب وهو من القامات الإبداعية والإعلامية المتميزة ، وقد عرفناه منذ بداية السبعينيات حينما كان مديراً لمسرح الجزيرة بودمدني وهو الآن مسؤول العلاقات العامة والإعلام بمؤسسة الأسواق الحرة بالخرطوم، وعندما رأيته يدير المنتدي  قمت بتحيته بوريقة صغيرة ، فللرجل علاقة قديمة مميزه مع عائلتنا بودمدني، فلم يتردد في أن يرحب بنا والنشوي تتملكه عبر المايكرفون ، حيث أشار إلي أجمل سنوات عمره التي قضاها بعاصمة الجزيرة وذكرياته مع أخي الأكبرالراحل الأستاذ حسن الباشا مؤسس إتحاد فناني الجزيرة بودمدني. ثم قرأ أزهري مودعاً كروانه وصديقه مصطفي في مرثيته حيث قال:-

أبداك من وين؟؟

وفيني منك.. لسه حاجات

من مخاوف.. ومن شجن

أبداك من وين؟؟

وظني إنك..فكرة إعلان الحياة

وإنتهاءات العوارض .. والمحن

نفسي ألقاك..

وأكون أنا.. كلي من بعضك

أو.. بعضي من كلك بدن

وداير أبقاك..وأوحِّد  دورة الدم..

المقسمه بيني بينك.. والسحن

   ومن المعروف غنائياً كما كتب (عتيق) وتغني بها (بادي) أن -الكواكب إحتفلوا بالقمر_  فكانت الكواكب هي حزمة كل شعراء مصطفي الموهوبين ، أما القمر فقد كان هو كروان الجيل... نعم هو مصطفي سيد احمد  الذي اضاء بروعة أشعارهم كل مساحات الزمن. ونحن عندما نظل نكتب دون كلل أو ملل عن منجزاته الإبداعية والوطنية ، نكتب لأننا ظللنا نكتشف في كل مرة أن له رصيداً ضخماً من الألحان المطربه يخرج ضؤها خافتاً في البداية  ثم سرعان مايزداد بريقها ولمعانها يوماً بعد يوم ، ونتمني أن يتناقش فيها المختصون في مجال علم الموسيقي والصولفيج ويضعونها في دائرة أبحاثهم في أجهزة الإعلام المختلفة وعليهم أن يحاولوا منهجياً إعداد بحوث جادة حول هذا الكم الهائل من الإبداعات التي ظل يقدمها الراحل مصطفي سيد احمد حتي رحيله، ولنبحث لنعرف لماذا تظل أعماله تقاوم كل الأزمنة حسب إتجاهات الرأي العام الجماهيري، ولماذا ظل الشعراء يمطرونه شعراً وقد كان بعيداً عنهم ، ولم يسبق له أن شاهد بعضهم ولكنه كان يتغني بأشعارهم . وحقيقة ...لقد إفتقدت بلادنا في منتصف الثمانينيات من قرننا الماضي أعظم ناقد ومفكر ومؤلف موسيقي عربي وأفريقي حيث كان ذا أفق أكاديمي ونقدي واسع وهو الأستاذ الراحل الموسيقار  (جمعه جابر) نائب رئيس المجمع العربي للموسيقي التابع لجامعة الدول العربية ومقره في العاصمة العراقية بغداد ، ويقيني لو كان هذا الرجل.. جمعه جابر.. علي قيد الحياة لكانت أعمال الكروان مصطفي قد وجدت النقد والتحليل العلمي المتقدم والإيجابي 0 ولكن000 دائماً تظل الرياح تأتي بما لا يشتهي (السَـفِنُ) .

ولقد سبق للشاعر المبدع أزهري محمد علي أن كتب في رثاء الكروان في حفل التأبين الذي أقيم في أربعين الراحل بقرية ودسلفاب في عام 1996م قائلاً في مرثيته التي أسماها          ( سلامات يازول  يارائع) :-

فات الكان..بدينا الألفه

وكان راوينا

فات الباكي جرحنا..

وناسي جروحو..ولافـِّي ورانا

مدينه.. مدينه

فات الصاحي..ونحن نغط

في النومه السابعه

طالق حِسو.. ولا حَسّينا

حتحت فينا.. غناهو الطاعم

وفات قـنعان..

 من خيراً فينا000000

    نعم000الكروان مصطفي هو مثل خليل فرح  الذي كان الإستعمار يضرب تعتيماً كاملاً علي كل أعماله ، بل كم من مرة طلب منه السكرتير الإداري الإنجليزي عدم مغادرة العاصمة إلي مناطق اخري بالسودان بعد ان أنشد في ودمدني في عام 1930م في مناسبة زواج الحاج محمد أحمد سرور (رائد الغناء السوداني) أغنيته الشهيرة: مالو أعياه النضال بدني ..روحي ليه مشتهية ودمدني ، فتم حرمان الخليل من مغادرة العاصمة وإستكتبوه تعهداً بذلك ، ولكن رغم ذلك فإن أعماله .. أعمال الخليل.. لا زالت راسخه في وجدان الجماهير بالرغم من عدم وجود فضائيات وصحف عديدة ومجلات راقية في ذلك الزمان. كذلك أعمال الكروان الراحل مصطفي سيد احمد ستظل راسخه ومتجدده ومتألقه ، وستتناولها الأجيال جيلاً بعد جيل ، خاصة بعد أن تم توثيقها خارج السودان وفي عدة دول بواسطة شباب جيل التقانة بكل الوسائل التقنية الحديثة ( الإنترنت- والسي دي) فأسسوا عدة مواقع إليكترونية لنقرأها نصوصاً ونستمتع أيضاً بها (أوديو) - صوت -في الكمبيوتر، ،فضلاً عن الكاسيت المنتشر، ونتمني بذل بعض الجهد والإهتمام الإعلامي بمحاولة جمعها وبثها عبر الإذاعة طالما لم تتح له ظروفه المرضية قبل رحيله من الوجود المستديم بالبلاد لتسجيلها تلفزيونياً . ولا أدري لماذا كان يقوم البعض في الماضي بمحاولات تعتيم لحصر وتصنيف أعماله في زوايا أيدولوجيه معينه لم يسبق له أن تحدث عنها، حيث عُرف في الكروان  طوال تاريخه الفني بعدم التغني بالأيدولوجيات ، ولا يوجد واحد من شعرائه كتب له شيئاً ذا علاقة بالفعل السياسي إلا بما يهم قضايا الجماهير، فالإبداع هو حق إنساني مشروع طالما لم يكن يصادر رأي الآخرين ولايعوق إبداعاتهم حتي ولو كان الإبداع سياسياً صرفاً، و كان هذا  التصنيف الخاطيء والتهميش الإعلامي السوداني البائن في فترة من الفترات لأعمال هذا الكروان الراحل قد أدي إلي تعاظم إعجاب الشباب به بإستمرار ، مما أضفي عليه هذه الهالة من حزمة الإنبهار بكل أعماله ، حيث كان تفسير العديد من المتابعين لحركة الإبداع يرون أن هذا الكروان الراحل كان يتغني بأحاسيس الشباب كله و(الغلبان) منه بالذات ، رغم إنزعاج بعض الناس عندما يأتي ذكر إسم  الغلابه دائماً!!!

  أو لم يلاحظوا أن هذه اللغه الجديدة التي تشتمل علي أدبيات الغناء بهموم الجماهير التي أنهكها مشوار النفق المظلم الذي تندرج تحت جنح ليلهِ كل معاناة أهل السودان ، وقد أصبح الإنتظار مملاً كي تنجلي ظلمات ذلك الليل الطويل ، فقد كتب تلك الأشعار التي تفيض بعشق الحبيبة ( الوطن)  جمهور الشعراء المبدعين من داخل السودان ولم يتم تصنيف أعمالهم بواسطة الجمهور بأنها مسيسة أو حتي مبتذلة ؟ فهي فقط لغة شعرية وطنية راقية وقد فرضت نفسها لأنها كانت تعبر عن أحاسيس وقضايا وهموم الجماهير ، بالغرم من أن البعض لم يأبه بها متعمداً في ذلك ، (وكل واحد هو حُر في مشاعره )0ولكن تبقي الحيقية في أنها قد فرضت نفسها بقوة وبكثافة بائنة ( فالعبرة بالخواتيم) حيث ظلت تلك الأعمال الإبداعية بما تزدحم به من جماليات عاطفية ووطنية في نفس الوقت تعبرعن أسرار أشواق الشباب المشروعة في الوجد والعشق النبيل الذي حولته تعقيدات الحياة إلي الحزن النبيل مما قاد إلي أن تصبح كل أعمال هذا الكروان الراحل نماذج جميله يري فيها هذا الجيل من الشباب المثقف كل ملامحه وسحناته ، وقد كان الكروان قد أتي من وسط هذا الجيل ، فجاءت أعماله وكأنها قد فصلت من أجل جيله خصيصاً حين أشار لذلك الشاعر حافظ عباس منذ زمن طويل :

بنبقي نحن 00مع الطيور

المابتعرف ليها خرطه

ولا في إيدا00جواز سفر

نمشي في كل المداين

نبني حبنا بالغناوي

وننثر الأفراح دُرر

والربيع يسكن جوارنا

والسنابل تملأ دارنا

والر ياحين والمطر

والحبيبه تغني لينا

لاهموم تسلك دروبنا

وما بلاقينا الخطر

نحن باكر 00 ياحليوه

لمان أولادنا السمر

يبقوا 00 أفراحنا

البنمسح  بيها00أحزان الزمن

نمشي في كل الدروب

الواسعه ديك..والرواكيب الصغيره

تبقي أكبر من مدن

لقد تغني بها في زمن مبكر الكروان الراحل عندما كان شاعرها حافظ عباس يري ملامح الأسي في أفواج النازحين من واقع الجفاف والتصحر متجهين زرافات ووحداناً نحو النيل بالعاصمة السودانية ، وقد كانت سلطات حكم النميري وقتذاك تمنعهم من الوصول لأطراف العاصمة الخرطوم حتي لا تنقل وكالات الأنباء للعالم قصة تلك المأساة الإنسانية التي تمثلت في المجاعات الشهيرة في ذلك الزمان الأغبر ، وقد لاحظنا الآن نفس عنصر المعاناة وشبح المجاعات يطل برأسه مرة أخري ليهجم علي شعب السودان في ولايات الغرب( فالتاريخ قد أعاد نفسه) . وقد فهم الكروان الراحل إشارة الشاعر التي تعبر قصيدته عن أحزان أولئك النازحين ، فأنجز تلك الأغنية الوطنية التاريخية التي سكنت في وجدان الجماهير سكوناً مستديماً. نعم... نبقي نحن مع الطيور المابتعرف ليها خرطة ولا في إيدها جواز سفر ، نعم .. هُم .. هُم النازحون الغلابة وليس غيرهم ،،،،

ولاتزال إبداعات الكروان مصطفي سيد احمد تسكن في خواطرنا ... فإلي الحلقة القادمة،،،، 

 

الصفحة 3-9 الصفحة 1-9

 

راسل الكاتب

معلومات عن الكاتب