الحاج  حمد محمد يوسف الجراري

بقلم /إبن أخيه : حمد حماد محمد يوسف الجراري

إن لله عباداً اختصهم بقضاء حوائج الناس ، حبب الخير إليهم وحببهم إلى الخير

من بين هؤلاء الذين تزخر بهم بقاع السودان وربوعه . . . هؤلاء الذين هم مفخرة السودان وشرفه وعزته بين الأمم على مر العصور . . . منهم كان الحاج حمد الجراري - عليه رحمة الله .

كان بيته قبلة الضيوف وملجأ الملهوف . . . كان بيته مركزاً للحائرين وبؤرةً للمساكين ...

كان الجراري منظمة من منظمات الإغاثة الإلهية . . .

كان الجراري سبيلاً للعابرين ومنتزهاً للحاضرين . . .

كان وقفـاً مباحاً أهدته مدينة ودمدني للغاشي والماشي . . .

في حياته لم تكن اللوكاندات والمطاعم مشروعاً استثمارياً بمدني . . . فقد كان باب ديوانه مفتوحاً على مصراعيه وعلى مدار الساعة .

قال فيه الشاعر :-

أبّ أحمــد

برق برّاقو ليل أسـود

وعمّ سحابو واتمــدد

جارفة سيولو ما بتنصد

كتيرة فضايلو ما بتنعد

أبّ أحمــد

كريماً جودهو وراثة

بشوشاً ما هو عباسا

شفوقاً عندو إحساسا

سريعة عطيتو نفاثة

 ولد حمد الجراري بمنطقة البساطة (جنوب الدويم) ، وهو من قبيلة بني جرار التي ينتهي نسبها إلى الصحابي الجليل سيدنا جعفر بن عبد المطلب (رضي الله عنه) ، وهم أبناء عمومة قبيلة الشكرية المعروفة بمنطقة البطانة .

وهو الإبن الأكبر لأبيه الذي كان يتاجر بسن الفيل والعكاكيز والفراء التويلي (حرير كان يجلب من بيروت ويفرشه العرب علي ظهور الجمال والخيل) . نشأ حمد الجراري وإخوانه (حماد و أحمد عليهم جميعاً رحمة الله) يتامى ، إذ توفيت والدتهم وعمره 7 سنوات وبعد 4 سنوات لحق بها والدهم ، وتكفل ابن عمه يوسف بتربيته هو وإخوانه . وعند بلوغه السابعة عشر تولي هو المسئولية ، وعمل بتجارة المواشي مبتدئاً برأسمال قدره 8 جنيهات واشترى وباع بعض البهائم . بعدها توجه إلى الشكينيبة لزيارة الشيخ عبد الباقي المكاشفي وأخذ الطريق على يده وتوطدت علاقته بالشيخ منذ ذلك الحين وإلى وفاته ، وهنالك أودع أخاه الأصغر أحمد الخلوة ليتلقى تعليمه الديني ، ثم سافر إلى غرب السودان في رحلة تجارية (تلس ، رهيد البردي ، أم كدادة) وعاد بعد ذلك وتزوج ابنة عمه ورزق منها بابنه أحمد الذي توفى في سن الخامسة والعشرون ، وبعد وفاتها تزوج بنت الشيخ عمر ابن الشيخ عبد الباقي المكاشفي ، ومن زوجاته أيضاً الحاجة شيخة عليها رحمة الله والسيدة آمنة بنت الشيخ عبد الباقي المكاشفي ورزق منها بولدين : محمد وأحمد .

كان كثيراً ما يتردد على مدينة ود مدني بحكم التجارة منذ الأربعينيات إلى أن استقر بها نهائياً عام 1956 في حي بانت جنوب مدرسة أبوزيد ، ومن هناك قدم الجراري شيئاً لربه ومجداً للتاريخ .

اشتهر الجراري بالتعامل الطيب بين تجار مدني الكبار . ومن أعز أصدقائه : أبوزيد أحمد ، سيد مكرنجة ، حسين علي كرار ، عبد العزيز شدو ، الصادق دياب ، مدثر البوشي ، يوسف شطة ، عبد الله عثمان الحضري .

كان ماله لغيره ، فلم ينفقه في بناء العمارات الشاهقة والسيارات الفارهة والثياب الفاخرة ، كان ينفق يميناً ويساراً ، وسراً وجهراً . أعان جميع أهله بإعطائهم رؤوس الأموال دون منّ أو أذى ، وما عمل معه أحد إلا وظهرت عليه آثار النعمة .

وكان يتكفل بتربية اليتامى سراً ، ويقوم بتزويج الرجل ثم يعينه على (السماية) عند ما يرزق بمولود . وكان يقتطع جزءاً من وقته لتدريس أهل بيته علوم الدين ، وكان كثيراً ما يردد على مسامعنا الحديث الشريف (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات   إلى آخر الحديث) .

كان يوقظ أهله في جنح الليل لخدمة الضيوف الذين يأتون في أوقات الهجعة ، ويساعدهم في (عواسة العصيدة) . . . نعم هكذا كان الجراري فريداً منقطع النظير .

وكان يعيش حياة عادية فقد كان متواضعاً لا يتكبر على الناس ولا يفتخر على أحد من خلق الله فقيراً كان أم غنياً . وعلى دربه يسير الآن ابن اخته حاج حمد عبد الله ، وأبناء أخيه الهادي ومعاوية أحمد ، وحفيده حمد أحمد وفقهم الله جميعاً لما فيه الخير والإحسان .

ونظراً لمكانته الرفيعة عند بني جرار فإن هناك ما يقرب من 20 فرد (أو هذا فقط ما أحاطت به ذاكرتي) قد سماهم آباؤهم بإسمه تيمناً به وأملاً في أن يحملوا شيئاً من صفاته .

كنا ونحن صغار نجلس ممسكين (بالأباريق) لغسل الأيدي بعد أن يفرغ الضيوف ، ثم نقوم بإحضار الشاي (بالكفتيرات الكبيرة) ، وبعد ذلك نجلس لنأكل ما تبقى من (الصواني) .

من الطرائف أننا في صباح يوم خريفي كنا نقوم بتنظيف (المراكيب) من الطين ، فجاء أحدهم ودخل الديوان وقال (الفاتحة يا جماعة) ظناً منه أن هذا الحشد لا يكون إلا لمأتم ، فضحك الجميع وقال له حاج حمد (اتفضل يا زول ما تسحر لينا ضيفاننا) . وفي ذات مرة جاء شخص وظن أنها لوكاندة فسأل عن أجرة المبيت . وأيضاً أيام الأحداث المعروفة بانقلاب المرتزقة عام 1976 ، أبلغ أحد أفراد الأمن عن وجود حركة مريبة في هذا البيت ، فداهمت قوات الأمن البيت واعتقلت الموجودين ، ولكن الجيران شهدوا بأن تلك هي طبيعة هذا البيت .

وأخيراً فليست غريبةً هذه الشيم على السودانيين ، ولا غرو فإن معظم قبائل السودان تنحدر من قريش أشرف العرب وأشجعهم وأكرمهم . ولكن الغريب أن نسمع من يقول أن زمن المروءة قد ولى وانقضى وإلى غير ذلك من الحجج والذرائع الباطلة والمثبطة للهمم . ولو صحّت هذه المزاعم لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة) ، وكيف نصدق هذه التخرصات بعد أن عشنا تلك القيم حقيقةً ولمسناها واقعاً . ويبقى بروز الجراري وأمثاله في هذه العصور المتأخرة مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعوداً في عين كل متفلسف حسود .

في أي زمن من الأزمنة يمكن للبخل أن يصير محموداً ؟ ومتى بالله عليكم يمكن أن يصبح الجود والسخاء عاراً ؟ . أولم يقل جلّ وعلا شأنه في محكم التنزيل (ومن يفعل مثقال ذرة خيراً يره ) ، (وإن الله لمع المحسنين) ، (إن الله مع الذين أتقوا والذين هم  محسنون) ، فكفى بالله سنداً ومعيناً للمحسنين .

 

راسل الكاتب