قطوف من المدينة الحالمة.. ود مدني

 

 

 

بقلم / عمر حسن غلام الله 

 

في أغسطس 2004 وخلال إجازتي السنوية في ربوع ود مدني بحثت عن تاريخ المدينة، وعن جذورها وأصولها، وعن شخصياتها وقادتها، فقادني البحث والتساؤل الى وزارة الثقافة، حيث التقيت بأحد وزراء الثقافة السابقين بالولاية، الأستاذ الجليل عبد الله الحسن، بن مدني البار وأحد مثقفيها ووجهائها، فسرد من الذاكرة هذه القطوف عن المدينة الحالمة.. ود مدني:


عرفت مدينة ود مدني بأنها منطلق للعمل الثقافي والأدبي، وهذا لم يأت من فراغ، ففي العهد التركي كانت مدني عاصمة السودان قبل أن تنتقل الى الخرطوم، ويرجع ذلك لموقعها وما تميزت به، فالحركة الثقافية في الثلاثينات وجدت رواجاً في مدني وانطلقت الجمعية الأدبية من نادي الخريجين، وكان هناك رموزاً من أبناء مدني تركوا إرثاً عظيماً، والمسألة الثقافية عندما بدأت كانت اهتماماتها بالتعليم، حيث قامت مدارس الأهلية من مدني، وبرزت شخصيات أصبحت معالم؛ من بينها الأستاذ أحمد خير المحامي الذي كان فكره ناضجاً في الجانب السياسي والثقافي، حيث ورد أنه بعد المعاهدة البريطانية المصرية عام 1936م - التي أعطت للسودانيين حق الاستخدام بمكاتب الحكومة- ألقى احمد خير محاضرة تحت عنوان "واجبنا السياسي بعد الإتفاقية" ، وهنا أخذ الوعي بحقوق السودانيين يتجذر وينتشر ، وتبعاً لذلك استمر الوعي بالحقوق، حتى أنه بعد إضراب المزارعين سنة 1946م عندما حاول المستعمر نقل المال الاحتياطي لمشروع الجزيرة الى المملكة المتحدة؛ أضرب المزارعون وخرجوا في مظاهرات وأرسلوا مذكرات حتى أن الحكومة وسطت الزعماء الدينيين ليوقفوا الاضراب، وألغى المستعمر قرار نقل الاحتياطي المالي فألقى أحمد خير محاضرة في نادي ود النعيم بعنوان "لقد استرشد القاصر، فليستعد الوصي على الحساب"، وكان لكل ذلك أثره في تشكيل الرأي المستنير الواعي عندما كان السودان يبحث عن الاستقلال في مشواره.

الشيخ مدثر البوشي

ومن الرموز الوطنية أيضاً الشيخ مدثر علي البوشي، وهو من أوائل خريجي كلية غردون، ويصفه الأستاذ حسن نجيله في كتابه "ملامح من المجتمع السوداني" فيقول فيه: "لهفي على هذا الفتى ذو الجلباب الأبيض والعمامة المكورة، وهو يريد أن يغزو المنبر فتمنعه المخابرات البريطانية، ولكنه وسط الهتاف والضجيج يجد طريقه الى المنبر فيشدو بقصيدته المشهورة:

أرى ما أرى مذ ساد في الناس واهن

أرى زهرة الدنيا وشرخ شبابها * تبدل بؤساً أعقبته المغارم

أرى الحق يبدو للأنام ويختفي * ولم يبق من بين العشائر حازم

هذه القصيدة التي جاوزت الستين بيتاً- وكانت في ليلة المولد النبوي الشريف في أمدرمان عام 1923م- وقد قال لي شخصياً "الإنجليز انزعجوا من هذه القصيدة، وترجمها أحد المستشرقين في وزارة المعارف، وكتب عن هذه القصيدة أنها ستكون نواة للثورة، ولو أنها قيلت في شعب مسلح لشق عصا الطاعة في الحال" وهذا الكلام مكتوب في ملف خدمته في دار الوثائق، وعندما ألقى هذه القصيدة أحس الناس بحقوقهم، وأنه يجب أن يتحركوا للاستقلال. وأشيع بعدها أنه تم اعتقاله، فطلب منه المستعمر أن يسير راجلاً في العاصمة المثلثة لمدة ثلاثة أيام حتى يتأكد الناس بأنه غير معتقل. وفعلاً صدق حدس المستشرق، فقد قامت بعد ذلك ثورة سنة 1924م.

وكان من ضمن أبيات هذه القصيدة:

أطلي صروح المجد من آل هاشم * فقد ساد قدماً في الخلائق هاشم

وكان قاضي القضاة من الهاشماب، وكذلك شيخ علماء السودان، وكان المقصود بهذا البيت أن يقود هؤلاء الشعب للثورة..

إليك فنبئ شارلمان فإننا * يدل بنا في ذلك العهد آدم

وقد نبعت يوماً بأندلس لنا * شؤون أبانت للفرنجة ما همو

وهنا يشير الى المستعمر..

هذا الإرث الثقافي هو النواة والدافع، وأن تكون مدني النواة لنادي الخريجين، ثم التقط القفاز نادي الخريجين بأمدرمان.

البطل علي عبد اللطيف

وأول مساجلة وطنية مكشوفة في تاريخ السودان تسجلت في مدني عندما كان الملازم أول علي عبد اللطيف راكباً على جواده- وهو من الفرقة التاسعة من أورطة الجيش المصري- حيث قابله في الطريق نائب مدير المديرية الانجيزي، وكان على صهوة جواده أيضاً، فتجادلا، فأراد هذا الضابط الإنجليزي أن يترجل علي عبد اللطيف من على صهوة جواده لتحيته، ولكن الأخير رفض في عزة وإباء سوداني وشمم قائلاً له: "ليس في تراب هذه الأرض رائحة تراب المملكة المتحدة" فكانت النتيجة أن تم نقله إلى جبال النوبه.

هذا الإرث جعل مدينة ود مدني بوتقة صهرت كل أهل السودان حيث يتعايش الناس استناداً على هذا الإرث الثقافي، فالتواصل الاجتماعي أصبح معلماً من معالم مدني، حتى الذين أتوا لمدني من بقية مدن السودان وريفه- بل ومن خارج السودان- لشغل مواقع في الخدمة المدنية أصبحوا جزءاً من مدني واستوطنوا فيها، حيث أصبحت هناك علاقات اجتماعية قوية بين أعضاء هذا المجتمع.

عمر حسن غلام الله

 

 

راسل الكاتب