قوز مربى

بقلم / عمر حسن غلام الله 

 

وصلت بعيد ظهر يوم الخميس من صيف ذلك العام من الداخلية لمدرسة مروي الثانوية، فالتقتني أمي في الحوش فضمتني الى صدرها بحنو وشوق كما لو أنها لم ترني منذ شهور طويلة رغم أنني كنت معها في الأسبوع الماضي، لا غرو فإنني كنت بالنسبة لها كل دنياها، فليس لها أبناء غيري وليس لها زوج، فقد علمت مؤخراً أن أبي اختفى أو توفي قبل ميلادي وترك (صالحة) عروساً أرملة. دلفت الى الديوان حيث كان جدي الذي رباني، ولذلك كنت لحين دخولي المدرسة الابتدائية أحسبه أبي، ومازلت أناديه بأبي، فوجدته ما زال على فروة الصلاة رافعاً أكفه بالدعاء، وما إن رآني حتى قام مرحباً بي وسألني عن أحوالي وعن الدراسة..

بعد الغداء خرجت أمي الى التحتانية (غابة النخيل) لتحش قش البهائم، ودلف جدي الى دكانه الملحق بالمنزل، وذهبت أنا الى مكاني المفضل: قوز مربى (الذي لم أعرف حتى الآن سر تسميته بهذا الاسم) الذي يقع خارج القرية جهة الصحراء، ولان الشمس مازالت ترسل أشعتها شواظاً من لهب تلسع الجلود، فقد استظليت بظل القوز حتى خفّت حدة أشعة الشمس فصعدت الى أعلى القوز من الجهة الخلفية الملساء المتدرجة.

وجلست على قمته - مكاني المفضل لسنوات طويلة- فقد كنت أجد راحتي في الجلوس في هذا المكان الهادئ البعيد عن الناس، وأطل على اللوحة الجميلة أمامي والتي تمثل قريتنا وأطراف القرى المجاورة، فمن هنا كنت أرى القبب عن يميني تتوسط المقابر، وخلفي تمتد الصحراء الجرداء لا يعيق استواؤها غير الكثبان الرملية المتفرقة هنا وهناك، بعضها صغير وبعضها أكبر من قوز مربى الذي يعتبر أكبر قوز في نطاق القرية، وعلى مد البصر عبر الصحراء توجد تلال صخرية تمثل سلسلة جبال صغيرة كم سرح بي الخيال ورأيتني أكتشف بها من آثار وكنوز وتماثيل وأنفاق كتلك التي في جبل البركل، فيسجل إسمي في سجل المكتشفين.

أمامي من القوز باتجاه القرية مساحة جرداء تبدأ بعدها بيوت القرية المبنية من الطين والجالوص قليل منها لها حيشان كحوش جدي والبقية مجرد غرفة أو غرفتين على مقربة منها زريبة البهائم..

عند نهاية البيوت تبدأ حقول البرسيم والقمح، تليها مباشرة غابة النخيل الممتدة على ضفة النيل الى ما لانهاية، تتخلل غابة النخيل أحيانا سبيقات (حديقة فواكه) وتنتهي غابة النخيل تلك عند الجروف حيث زراعة اللوبيا ثم النيل تتوسطه الجزيرة التي يزرعونها بعد الفيضان من كل عام باللوبيا والبطيخ ويجنون منها أيضاً الثمار البرية مثل قرع الجرم.

على مدى سنين صباي كنت استمتع بهذا المنظر الذي لم أمل النظر إليه أبدا، كما كنت استمتع بهديل القمري فوق هامات النخيل يأتيني من على البعد خافتاً، كما كان صوت ثغاء السخلان قبيل المغيب تلهفاً لرضاعها من أمهاتها بعد حلب هذه، يعطيني إحساساً غامضاً يدفعني الى الإسراع نحو أمي فأجدها توقد النار استعداداً لعمل شاي اللبن المقنن فأجلس بجانبها وهي تعد الشاي واستمتع برائحة القنانة أولاً ثم بجلسة شراب الشاي على الرمال البيضاء.

من مكاني في قمة قوز مربى كنت أرى النيل عند ثنيته الكبرى التي اتجه فيها شمالاً مرة أخرى بعد أن اتجه- عند (أبو حمد)  جنوباً لأول مرة منذ بدء رحلته الأبدية، حين قرر فجأة ألا يذهب شمالاً (لا أدري لأنه تعب من هذا المشوار الطويل من أعماق أفريقيا ومن جبال الحبشة، فشاخ ولم يعد قادراً على مواصلة السير أم أنه قرر الرجوع الى موطنه الأول حنيناً إليه؟ أم يا ترى أحس بأن الجو في الشمال البعيد لا يناسبه فقرر العودة من حيث أتى؟) المهم أنه رجع فعلاً باتجاه الجنوب الغربي، ثم بعد مسيرة عدة مئات من الكيلومترات وعند منطقتنا بالذات (كنار) قرر مواصلة السير شمالاً ربما لأن أهلنا هنا أقنعوه بمواصلة السير شمالاً، أو ربما لأنه قرر أن يهب نفسه لأهلنا في أقصى شمال السودان وحينها لا بأس من مواصلة السير شمالاً.

شئ آخر يجعلني أدمن هذا المكان، وهو عدم سماح أمي لي باللعب مع الأطفال عند البحر، فلا تريد أن يأخذني البحر كما أخذ أبي من قبل، لذلك كانت دائمة التحذير لي من السباحة في النيل أو حتى اللعب بقربه، لذا كنت ألجأ الى هذا المكان..

ولكني لست وحدي من يأتي إليه، فهناك حامد الدرويش الذي ما إن يراني قادماً الى القوز حتى يتركه مسرعاً وهو ينظر إلي نظرات غامضة لم استطع فهمها.. أخبرت يوماً أمي بذلك وسألتها عن حامد هذا فلم تجبني.. وعندما ألححت عليها أجابتني باقتضاب بأنه (كان في صباه داير ليهو بت) لكن تزوجها غيره فأصبح هكذا هائماً على وجهه.

وفجأة سألت أمي عن أبي ولا أدري لماذا سألتها عقب سؤالي عن حامد، شعرت بها قد ارتبكت قليلاً ثم استعادت هدوئها فحكت لي باقتضاب أيضاً وبصوت بدأ عادياً ثم أضحى متهدجاً أنه بعد زواجها به بأسابيع قليلة ذهب يسبح في النيل ولم يعد، وقد وجدت ملابسه على ضفة النهر، ولم تظهر جثته على طول النهر حتى ديار الضناقله، لكنهم فرشوا وتلقوا العزاء على إعتبار أنه قد يكون خطفه تمساح.

حين بردت الشمس مارست هوايتي بإلقاء نفسي من أعلى القوز من جهته التي تشبه الهاوية متدحرجاً الى الأرض في وضع جسدي أفقياً (أي في وضع الرقود)، ثم أصعد مرة أخرى عبر الجهة الأخرى المتدرجة الملساء الى قمته ثم أكرر إلقاء نفسي من علٍ وهكذا..

في أثناء لعبي حصرني البول، فأردت إفراغ مثانتي في جانب من القوز إلا أنني لم استطع ذلك.. وتذكرت لحظتها أنني منذ عدة سنوات أردت إفراغ ما في مثانتي على نفس القوز، فانحبس الماء ولم يخرج فابتعدت عن القوز قليلاً فسارت الأمور على ما يرام، فكررت المحاولة بعيداً عن القوز ولم أجد صعوبة في شئ..

هذه الحالة التي تكررت الآن، ولم أجد لها أي تفسير، فلم يكن قربي أي بشر حتى أشعر بالخجل الذي يمكن أن يسبب ذلك، ثم لماذا في القوز بالذات وبعيداً عنه يتم كل شئ بصورة طبيعية؟ المهم واصلت لعبي، وأثناء ذلك أحسست بشيء ما مغروس في القوز تعثرت فيه، فحسبته نبتة صحراوية أو شئ من هذا القبيل..

وبعد عدة مرات من التعثر فيه دفعني حب الاستطلاع لمعرفة كنهه، فكشفت الرمل عنه، وبدأ يتكشف عن يد آدمية..

كاد أن يغمى عليّ من شدة المفاجأة، إلا أن الخوف دفعني لإطلاق ساقيّ للريح تجاه البلد، وما إن وصلت أول البيوت حتى بدأت في الصياح (الحقوني) ولما انتبه الناس لصياحي وخرجوا لمعرفة الخطب كنت قد ولجت دار جدي ودلفت الى دكانه .. ولم استطع الكلام أول الأمر لهول ما رأيت ولكون أنفاسي لاهثة من الجري..

وعندما علم جدي مني بما رأيت، كان أهل القرية الذين كانوا فيها في هذه اللحظة قد تجمعوا في دكان جدي فعرفوا منه بالذي حدث، وتوجهوا جميعهم نحو قوز مربى، وبدأوا في نبش رفات الجثة..

وأثناء ذلك كان حامد الدرويش يبكي بعصبية، ولم نستغرب بكاؤه على ميت مجهول الهوية، فهو أي حامد- درويش لا يلتفت إلى تصرفاته أحد.. لكن حينما تم إخراج الرفات من تحت الرمال بكى الدرويش حتى أغمي عليه، وحين أفيق كان يردد (عبد الفضيل، عبد الفضيل)، وهذا اسم والدي، وهنا انتبه الناس له وسألوه ماذا يعني، فقال لهم وهو يشير الى الرفات، هذا عبد الفضيل.

روى حامد الدرويش كيف أنه كان يحب صالحه وأنه اتفق معها على الزواج، إلا أن بن عمها تزوجها حسب التقاليد، فهو أولى بتغطية قدحه، فاستدعاه حامد ليلتقيا في القوز، وهناك بدأ يوبخه على فعلته تلك خاصة أنه يعلم أنهما- حامد وصالحه- يحبان بعضهما،

واحتد النقاش بينهما وتطور الى تشابك بالأيدي، وفجأة وضع عبد الفضيل يده على صدره مكان القلب وشهق ثم خرّ الى الأرض. وهنا انتاب حامد خوف شديد ورفع عبد الفضيل عن الأرض فوجده قد اصبح جثة هامدة..

لم يدر ما يفعل، ولا كيف يتصرف، لن يصدقه الناس إن قال لهم أنه مات هكذا، سيتهمونه بقتله، جلس مذهولاً لساعة من الزمن، ثم تسارعت الأحداث بعد ذلك، خلع ملابس الجثة ودفن الجثة تحت رمال القوز، وفي المساء عاد الى القوز وأخذ الملابس ووضعها عند حافة النهر.

ولما لم يعد عبد الفضيل الى بيته حتى ساعة متأخرة بحثوا عنه في كل مكان حتى وجدوا ملابسه هناك، فظنوا أنه مات غرقاً. ومن بعدها لم يتحمل حامد ما حدث بسببه فساءت حالته النفسية واصبح هائماً على وجهه.

أعيد مأتم أبي بعد ستة عشر عاماً من وفاته، لم يتخذ أي إجراء ضد حامد، بل تم دفن الرفات في المقابر دون أن يخطروا المركز في مروي، بناء على اتفاق رجال القرية وجدي.

لم أحس تجاه حامد إلا بالشفقة، وفهمت الآن مغزى تلك النظرات الغامضة التي كان ينظر بها إليّ، ومعنى وقوفه تجاه القوز في أحيان كثيرة وهروبه عندما يراني هناك.. والغريب أنه بعد هذا اليوم- يوم اكتشاف الرفات- صار حامد إنساناً عادياً.

جدة السعودية

 

راسل الكاتب