أحد الذين ألفتهم

بقلم / أحمد محمد المبارك 

 

           خرجت كعادتي يومها بعد تناول الأفطار منزعجا قلقا نحو آخر المحطات .. استبدلت تلك السيدات المتهالكات ( الكناتر ) بأخريات صغيرات مميتات ..  ذات ألوان مزركشة فتلك حمراء وأخرى بيضاء .... أعلنت أني سأمتطي إحداهن .. أخرجت الخمسين دينارا متحديا لتلك الصغيرة المغرورة .... ركبتها وشعرت أنها تململت من دقداق جبرونا ومن شفوتها وترنفزت الصغيرات ولسان حالهن يقول (ربنا يتوب علينا ) من هذا الشارع المهمل عشرات السنين من كل الحكومات المتتابعة وما أكثر الوعود باصلاحه ولكن هيهات هيهات لنا .. شعرت تلك الصغيرات براحة نفسية وهي تعانق ذلك الأسفلت الأسود عند جامع بانت العتيق .. وعبرت عن ذلك بزيادة السرعة وهي لا تتركنا نستمتع بمناظر شارع سنكات العتيق التي ألفناها أيام الدراسة الأولى ... ووجوه حسناوات ودقيحة والحجر نراهم كالأشباح لسرعة هؤلاء الصبية الذين يريدون تلك الفاتنة ( التوريدة ) ونحن بين رؤية الحسناوات والوصول السريع مرتهنين .. تزدحم الشوارع عند سوق المدينة المتهالك بين بائعي الموز والأقمشة المزركشة  وأصوات السابلة ..

           توجهت  نحو موقف مايو أربعين أو النصر كما يحلو لأبناء جيلنا جيل الانتفاضة الغائبة أمتلأ الدفار بعد جهد مقدر من المساعد المشاكس .. تفرست متبينا الوجوه لعلي أرى أحد الوجوه رحمها الله من الغربة والهجرة خارج الوطن أو خارج المدينة .. ولكن باءت المحاولة بالفشل من صديق ألفته أيام دراسة أو عمل أو رياضة  ...... كان أخر الصاعدين شخص يبدو من ظرفاء المدينة التي اشتهرت بذلك يسمى عوض الطيب الشهير عند أهل جبرونا بعوض سحلية ولعله اشتهر في تلك الخطوط .. حيث لديه لازمة يذكرها دوما ولعلها هي سبب شهرته وهي استقالته من الشرطة حيث كان شرطيا معروفا أيام العصر الذهبي للشرطة .. كان دائما ما يذكر تلك الاستقالة في كل محفل ومجتمع لا سيما وأن كثير من الناس يطلبون تلك اللوحة  .. والحقيقة الاستقالة عبارة عن لوحة فنية سكب فيها الرجل كل تجربته والمرارة التي آلمته من بعض الرفقاء في الشرطة  والاستقالة كان يحفظها الكثير ممن يعرفون عوض ولاعجابه الشديد بهذه الاستقالة ظل يرددها ذهاء العشر سنين....

      ولا يخلو لقاء عوض سحلبة من مدائح وطرائف عديدة تجعل المسافة التي يقطعها في الوصول سريعة تكاد تكره النزول تاركا أياه في العربة .. والركاب ببين معجبين ومستهجنين لأنه يرفع صوته لا يأبه بالحاضرين أشتهر عوض بعد تركه الشرطة بالأعمال اليدوية التي برع فيها وذلك بعمل الفلكلور الشعبي من ( الحق , العناقريب .. ألخ )والأشياء الخاصة بمراسم الزواج والحنة ولعله أستفاد من والده الحاج الطيب رحمة الله عليه الذي كان يملك حطابة في العصر الذهبي للحطابات بمدني حيث كان الناس يعتمدون عليها في الطبخ ولعله أيضا استفاد هذه الحرفة من أبناء أبي شلة وأولاده ذلك الشيخ البصير الذي برع في هذه الحرفة مع شهرته الفائقة في معالجة الكسور والاصابات الجسدية ....

        كادت محطتي تفوت علي لانشغالي بأحاديث عوض الرائعة ودعته مترددا في النزول ودعته وحمدت الله أنني التقيت بأحد الذين ألفتهم في زمن الارتحال المر,,,

 

راسل الكاتب