القنديل

 

 

 

  للقاص :عبد الباسط آدم مر يود

 

/1   متاهة السلطان

كنت قنديلاً في عتمة القرية  أملئها نوراً وانبهار، تنقلت بفرحٍ غامر بين أركانها سوق المواشي ، سوق المحاصيل والأنادي ، أنادى في المظاليم الغبش المدعوكين بالفقر والجوع والمرض

 : كونوا كلماتٍ مسنونة تفقأ عين الصمت،

فهتفت الأفرع و الأغصان الخضراء

:: يا نموت ضُمة يا نحيا ضُمة

مشى في القرية الموت فشيعت بنيها ، وتنفست قهراً تبحث عن الحرية وغاب الابتسام عن الوجوه الكالحة ، ولا زالت الأفرع والحجارة والإطارات المحترقة تزَّين الشارع الرئيسي أمام دار العمدة ، حيث دارت المعركة الأخيرة بين المتظاهرين وحمير بَطّان العمدة ، ورقد على أثرها أناس كُثر بالاستبالية جرحى بإصابات خطرة فتغرب الأهالي وقنجروا وفي عيونهم حط الخوف

 : ها ناس الظلم كتر خلاص.

حدجتني بِتْ جِريّبان الحيزبون بنظرةٍ ملؤها الاستغراب

 : ظلم شنو ياود عمارة

 :إِت ماك شايفة..ولا خلاص القلوب ماتت..خرطوا منكم العمودية عديل وجابو لكم الجلاّبة حكام  يوروكم العجب ، ما شفتي الضابط الجديد مشيت شاكيلو شِبكَتي مع الوايلية، قلتيه حضرت جنابك الناس ديل دخلوا حدود وطاتي وضموا جُرابتِي بهشابها وحرقوا بُورْتِي الكنت خاطيها لحريق البطيخ السنة دي .

رفع عيوناته هيلات القزاز وقال لي

: يمشي معاك العسكري وجيبوا لي جرابة وهشابة وبورة

انفقعت من الضحك الجواني..زولك فاكر البورة والجرابة ديل ناس .

ضاقت الخلق بفعايل العمدة شئ دقنية على الرجال وطُلبه على البهايم، شئ عِشور وقِبانة على المحيصلات فضلة الطير والجراد ،ويعجبوك ناس حمار بطان في الجباية قلع عديل، لموا الظرماطة والحداحيد وستات الشاي والفارشين بالسدايد والعيدان والمطارق والتشاشة .

 : هاناس موت لموت أخير نموت واقفين

جَلّقْت الريل بت القشيم بعد أن عاتل حمار بطان ود عمارة من وسط السوق فصدحت

 : الواعي ما بوصوه من أمس الضحى تُوري الجنود ساقوه يا مُقنع ولياتو..

/.2   متاهة الدرويش والحوار

استلمت طلب حضوري لمحكمة العمدة بدعوى تأليب الناس في عصر السلعلع وحضهم على الثورة ، وكوني قلت أن العمدة راجل حاكم بالبتّارة والطلاميس

ندهت ونهمت جدي أبو إيداً برة يفزعني، الذي بيّن وحلّم ابي بعد رحيله، أن يجعلوا على قبره كُرنُكاً من الفِخَيخَة حوله زريبة من الغِبيش ورايات حُمر على الأركان الأربعة ، عالية بباب يتقابل مع القرية ، كأنه كان يود رؤية مسرى حياتنا التعيسة، والدي حينما شرع في تنفيذ ذلك استخف به الناس ، منهم جلوقة وأبو صِنَيْقير .

: الزول بتسولوا قُبة قبال ما يبيَّن

:أبوك دا كان صالح ما كان العمدة بشتنك البشاتن دي

وكان الناس يحكوا عن مرارةٍ وظلمٍ أصابتا جدي من العمدة الكبير أيضاً، نام والدي متوسداً أحزانه من شماتة البلاعيط،  أتاه والده

: أنا أبوك خليهم يجوني ويشوفوا كيف أبَّين .

اتلموا البلاعيط قبل صلاة المغرب وذهبوا مع والدي وقلبه واجفاً ، فاجأهم جلوقة بصرخة مدوية واستغاثة إذ كان يتقدمهم في الدخول ، حيث كانت تقف يداً بيضاء ترحب بهم ومن يومها صار جدي أبو إيداً بره ، الذي استنجد بشيخه محمد الهميم ساكن المُندرة في خلافٍ له مع العمدة الكبير ،فقال له العمدة الكبير

:يشَخْشِخْ بولك شنو شيخي شيخي

قال جدي بفم مليان تقوى وصلاح

: يا ساكن المُندرة أفسخ جلدوا ذي ما فسخت جلد القاضي ، وقيل أن العمدة الكبير أصيب بالبرص ولم يعد يخرج للناس، جدي يقول إنَّ شيخه الهميم ساكن المُندرة أنكر عليه قاضي أربجي قائلاً له:

 

:  ( خمسَّت و سدسَّت وسبَّعت تجمع بين الأختين تخالف كتاب الله وسنة رسوله، فقال: الرسول أذن لي الشيخ إدريس يعلم ، فسأل القاضي إدريس : أهذا الكلام صحيح ؟ فقال له: خله بينه وبين ربه ، قال له : ما بدور هدايتك بدور شهادتك ، قال له : البعتق له معتوق يرجع في عتقه، الراجل دا الله عتقه،وقال القاضي: جميع هذه الأنكحة فسختها ودعا عليه وقال: الله يفسخ جلدك، فمرض القاضي مرضاً شديداً وانفسخ جلده مثل قميص الدبيب).

   إنسلختُ قبل يوم المحاكمة من القرية عند العِصير، فتبركتُ وتعفرتُ عند أبو إيداً برة ، وخممت من رماله الناعمة العطرة في صرة ، جعلت منها عصيراً استعضت به عن الماء ، وتمسحت به ثم قبضت قليلاً لأنثره في وجه العمدة ، و أنا أتلو (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم وهم لا يبصرون) يس ، كنت وقتها في العِقد الخامس ، لي بشرة بيضاء مخلوطة بالسمرة ، ووجه عريض ينم عن وسامة في صباي الباكر ، أطاحت بعقل الريل في شباكي ، شعري تلون بالبياض لكن سواده لا زال طاغياً ، جبهتي عريضة تتخللها خطوط مزدوجة وعينان صغيرتان حادتان باحمرار ، مربوع القامة ،ارتدي العراقي والسروال الجرجار، وعلى رأسي عمة الكِرِبْ ، والتفَّ بالثوب القَمْبَالي ذو الطرف المخطط، وانتعل مركوب أحمر فاشري، وعلى ذراعي ترقد سكيني فاطر الريل.

تقاطرت الجموع المغلوبة، كالفئران المذعورة، من أقاصي القرية أحيائها وفرقانها إلى مجلس العمدة ، الراكوبة الفسيحة المظللة بقش الدخن وشرقانيات النّال والفِخيخة وقد حبكت جنباتها بنظام بديع ، وكان كل حي وفريق يباري الآخر في زخرفة وهندسة الجانب الموكول له بناءة من مجلس العمدة ودياره، جلس الناس متقرفصين متزاحمين على بروش سعف و آخرين مصطفين وقوفاً ، والنهار ينبأ عن ارتطام لصهد وفحيح الصيف بالراكوبة، وتوقفت الجنادب عن الصياح، التقت أنظارها وأنظار الواقفين والمتقرفصين عند الدكة العالية والمقعد الأبنوسي اللامع متحكراً عليه العمدة ، برأس صغير تتكوم عليه عمامة كبيرة بوجه صارم القسمات ،وفم يميل للإلتواء بفعل إصابة سحائي سابقة ، تتناثر شعيرات قليلة جداً عند الشارب واللحية ، يجلس بجواره أرضا كاتبه وابن عمه ،وشفتيه تتحركان فى همس تلوكان التسابيح والتحاميد المتموسقة مع عزف سبابته على المسبحة الكهرمانية ،وبجواره قلم بوص وصحائف ودواية بحبر  داكن ، يقف خلف العمدة رجلين مصبوبين منصوبين بزي عسكري جبوتية وسروال اسفل الركبة ،وعمامة تعصب الرأس وعلي كتف كليهما بندقية وهما حماري بطانه وحرسه الخاص .

  3 /  متاهة الكمبوية

أزال كاتب العمدة حشرجة كانت تلتصق بقاع حلقه قائلاً

 :تبدأ جلسة اليوم بالقضية رقم (13) التحريض على الثورة وإساءة جلالة العمدة المتهم فيها ودعمارة.

هرش ود عمارة رأسه اسفل عمامته وطاف برأسه حول الحضور قائلاً:

 :)قد جئت اليكم ـ عبر فصول الأرض

أتكلم عشباً ، اضحك اقمارا

أبكى أمطارا خضراء

أتنفس طميا، ارقص برقا وغناء

أتطوح صيفا علويا

قد جئت إليكم أتأرجح فوق الحبل الممدود

من أبعد ساقية في الريف إلى البرج الصخري

الصامت في الميدان)

يستند العمدة بجسده على كرسيه قليلاً، ويبدأ في سرد دعواه ضد ود عمارة ، الذي صادرت أذنيه حق الاستماع حنقاً وقتئذٍ، فلم يعد يسمع ولكنه يرى العمدة يتضاءل شيئاً فشيئاً، حتى غدا جربوعاً يقفز فوق كل الأشياء الثمينة فيتلفها، ويقرض كل مخزون استراتيجي لهؤلاء الغلابة، وفي جوقته كل الجرابيع التي انقادت لجرسه الرنان ومزماره الطنان، فسهل قيادها بعد أن أصيبت عيونها بالغبش والعتمة  و أراد العمدة لود عمارة أن يتجربع ليسلس قياده لكونه جبهة صدت طموحاته وقنديلاً يحرقه بشواظ من شاكلة

 :الأمانة جاتكم يا ناس عمدتكم دا ما خشموا ملوي و أدروج، وياتو السواه ليكم أدروج..ماني ود عمارة دي ..يوم جزيت ليهو دقينتو وشنيبو برماد لداي الريل بت القشيم، لقيتو داخل عليها بالجيرية كونه العمدة، لكن يا مقطوع الطاري عمدة على رفيقتي.

تطأطأت الرؤوس على الأكتاف متهدلة، وتوقفت القلوب المقهورة عن النبض والرجال ما بانت، وقعت الكلمات كالقطران الساخن في أذني العمدة ، تتسع عينيه وتضيق مع كل راجمة من ود عمارة الهادر وتلبس شيطان الغضب العمدة عمامة وجلباب وزفر بكلمات حادة

: السجن ثلاثة سنوات مع الشغل الشاق بالكمبوية .

/4     (ما برتعن ثورتين في بقر)

اقتدت راجلاً مربوطاً من يداي إلى مخلوفة جمل حرسي, مكلبشاً منفياً إلى الكمبوية حيث الوتاب والكوفار يسحقان المساجين المنهكين بكسر الحجارة وحفر منقرمنقر صيفاً ، تعقبها الجوادة والتحاريق الرشاشية والحش والجنكاب في الخريف, انتقل الخبر بزفة وسرى في القرية وعم الزرائب و الأسواق فثارت الدوانكي والتقاقيب والأنادي وخرج الفقر والجوع في الشوارع، التفت للقرية مودعا ًوضوء السرحان  غاشيها  والصبح المتنفس يطارد العتمة المعسعسة،  أنسرب إلى صوت الريل.

: أصفر عيش التقاه          أبو مناهل مو مي وطاه

لم أكن يوماً ماء فطرياً طحلبياً أخضراً ولا طينياً بلومرياً آسناً كما العمدة ماء الواطاة يقطع أماعي الغبش بالبلهارسيا والقارديا بل كنت زلالا شفافاً شافياً.

 

 

عبد الباسط آدم مر يود

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون