العفوس

 

 

 

  للقاص :عبد الباسط آدم مر يود

 

       هانذا التصق بالشيء الأملس الناعم كخدٍ اثيل .. التصاقي باربعاتي ، يداي تحاولان الالتفاف حول خصره لكنها لا تحيطه ، كم تمنيت أن تكون لي مخالب باشق لحظتئذٍ لاغرزها في هذا الشيء الأملس ، ورجلاي تحاولان التثبت بمؤخرته التي لا تشبه أي مؤخرة ، وصدري المهتز بفعل ضربات قلبي الواجف ، هو الآخر يحاول الالتصاق ، وكل نهاياتي العصيبة ترتج وتصرخ أحاول الزحف الى الأمام اللامتناهي في نظري القاصر فلا اقدر ، أحرك يدي اليمني ، غارزاً أسناني في شفتي السفلي ، تجاه نتوء قريب لكنه يبتعد عني جافلاً شامتاً ، مخرجاً لسانه فتغشاني موجة رذاذ لزج وعفونه واضحة ، طارت بومة من الهوة السحيقة اسفل مني فاصطفق جناحاها ونثرا رذاذاً نتناً لزجاً أبيضاً ، وصوت أخي الأصغر في الاسفل يصلني أنيناً متقطعاً ، محاولاً توجيهي للامساك بتلابيب الأفرع العنيدة .

: حرك يدك اليمني قليلاً .. لا ترفع رجلك مد يدك فقط !!! وأنا أحاول جاهداً أن افعل ما يشير به علي خارت قواي وتيبست قدماي وتسمرت يداي ، وشعرت بالخدر ينتشر في كل جسدي ، أخرجت عينيَ من محجريهما لتعانقان الأرض البعيدة وكأنما تفصلني عنها قارة أخرى ، فارتد إلى بصري وهو حسير ، أصدرت أذناي طنيناً متواصلاً وصدري الذي يعلو ويهبط ، وأنفاسي اللاهثة كالحمي تحبس الكلمات فتخرج متقطعة ، تذكرت وقتها ثغاء (المكسور) الحزين وهو متعلقَ بين الأرض والسماء و أرجله تتخابط سكري ، كان سخلاً مشاكساً عسلي العيون متهدل شعر المقدمة كقصة الحناكيش تزين المسافة بين قرنيه المعكوفين كهلالين ، وكان يسير وسط القطيع متباهياً بسواده اللامع ، وغرته الوضاءة التي تجعل السخلات يحمن حوله ويصدرن ثغاء حميماً

: ميع .. ميع ميع ..

     كان (المكسور) سخلنا في نفس هذا المكان اسفل مني ، يداعب (عصار القايلة) جمل شيلنا ، محاولاً اختطاف عليقته مستقلاً بطئ حركته وهو بارك محتضناً الأرض ، فتارة يأتيه عن يمينه و أخرى عن شماله ، وعندما بلغ سيل عصار القايلة ذباه وقف علي اربعاته راشحاً سائلاً نتناً وزعه بذنبه بين رجليه الخلفيتين وظهره ، ونفخ بالونته الوردية علي صدغه الأيمن واصدر هديراً تساقطت له بعض وريقات التبلدية خائفات كان ذلك بمثابة صافرة لوقف الهزار للازيرق (كان يَعرف وقتها) لكنه تمادي في هزله فقفز إلى وسط طست العليقة فتلقفه عصار القايلة بفم ملؤه حبات  الذرة والزبد الأبيض الهلامي وامسك بمؤخرته وتله الى اعلي كالونش أضحى ثغاء السخل مواءً خافتاً فتداركه والدي لحظتها انفكتا فكي عصار القايلة وسقط الازيرق متمسحاً بالأرض وانغرزت قرناه بها ، ومن يومها صار يحبو على رجليه الأماميتين وصار المكسور .. هاهو مواءه يطن في أذني وصلبه المهشم الذي يكنس به الأرض يجعل قدماي ومؤخرتي يغشاهما خدرُ كاملُ  فأحاول جاهداً أن التصق أكثر وأكثر بالشيء الأملس الناعم وأن الصق خدي عليه في استسلام كامل , أخرجت عيناي  من محجريهما للمرة الثانية لمعرفة مكان أخي الذي اسفل منى ولكنى عدلت عن تلك المحاولة بعد غياب صوته وأدركت أنني سأسقط لا محالة , وتخيلت جسدي يتوزع مزعاً بفعل الاصطدام العنيف بالأفرع التي تسد المسافة البعيدة بيني والأرض ، فالرأس غادرت أولاً لكم تفوهت بفاحش وكم نممت وكم اغتبت يا فمي فوداعاً وأنت تصدر صرخة داوية زلزلت أركان التبلدية , غادر الرأس يحمل العينين اللتيين كم نظرتا الى المحارم ولم يغضضن البصر بنظراتهما الزائغة الوجلة والوجه الممتلئ رعباً وقف له كل شعر الرأس ثم غادرت اليدان اللتان كم اغترفتا من خطايا , ثم القدمان فالصدر .. البطن الذي كرع الحرام افرغ كل محتوياته وصارت حبالاً تتعلق في المسافة بين الجذوع والأرض وهكذا غادرت إلى الله بالقطاعي ، حركت يدي اليمني مرة أخرى محاولاً الإمساك بذاك النتوء المبتعد أغمضت عيناي وعضضت علي أسناني لتمديد يدي أقصى ما يمكن وفردت أصابعها ولكن منالي كان ابعد وغشيتني جدلية سقوطي العظيم ، فتخيلتها كسقوط (المحينة) من نفس هذه التبلدية وهو يغافل الكل فيصعد إليها متوشحاً قربة ماء فيدلقها علي قرص النحل البري طامعاً في عسله الغالي بداخل فتحتها التي تستودع لنا ماء المطر الخريفي لسقيانا صيفاً ، وكان ظن (المحينة) أن انسكاب الماء يعطل طيران النحل الشرس ولكن قبل أن يجمع العسل جفت أجنحة النحلات الحرشفية فأوسعته لسعاً أطاح به من علو التبلدية متكوماً أسفلها ومن يومها صار اعرجاً وفاقداً لماء الولد ، فحرم من طفل يؤسس له ويكون له جذراً له انتماء ثابت واصل ، أيكون اصطدامي اعنف لاني التصق الآن بأعلى الجذوع واسفلي جذوع وجذوع ثم مغارة فاغرة فاهها تحدق في شامته هي الأخرى .. فتشخص أمامي المحينة الأعرج مثل حلمَ قادم من العتمة ، ها هو يعرج قبالتي ويفتح أحضانه لي ، التي تتشكل كما الغبار من ذرة والماء من قطرة ، رجلاه ينسلان منه كهايفات الفطر كأطراف الأخطبوط لكن لها شرشرة كشرشرة المنشار حادة .. التفت حولي ، هصرتنى ، حلبتنى ، صرت كعصارة تقطر منى ماء الولد كثيفاً لزجاً له رائحة الدبق ، فازددت التصاقاً بفريع الموت ، وهو الفرع الغربي الأكبر بين كل الأفرع الغربية ، لتبلديتنا أم توكيل والتي اسميها أنا Om two kill ، والتي تسلقتها إرضاء لأحلامي الحمقاء في اصطياد الثراء من أودية مجهولة الهوية ، ثم إرضاء لنزقي الخاص ، ولشهوتي والدتي وصويحباتها اللاتي تجمعن لمص القهوة ودم أهل الحي بقطيعتهن ، لشهوتهن في أكل العفوس بالدكوة وبصل زالنجي الأبيض ، فيعفسن الأوراق اليانعة التي يبتسم بها التبلدي في أول تباشير الخريف (شقت الشدر) تنامت أحلام ثرائي الطفولي بطفيلية عندما نادتني أمي   

: نزل لخالاتك ديل عفوس

ثم ألصقت فيها بأذني

: بيع ليهن الربطة بتعريفة

     أغراني حديثها بالمغامرة ، وانتشرت رغم انفي أحلامي في الثراء وتتمددت فتسلقت أم توكيل بهمة قرد ماهر ، والتفت أحلامي المنتشرة حول أخي الأصغر فظل يجمع ربط العفوس واضعاً إياها في جوال ، رافعاً صوته الذي كان له سحره في دفعي إلى الأعالي رويداً رويداً هكذا جبت الشجرة شرقاً ، غرباً ، فرعاً فرعاً حتى ساقتني قدماي الطامعة هي الأخرى إلى فريع الموت الذي التصقت به و هانذا التصق به فاجده املساً ناعماً يتبدى لي ، وأنا جامد بلا حراك ، وأصوات الناس الذين تجمعوا علي ولولت أمي .

: يا رمادي يا فليلي الحقوني يا ناس !!

     وفي محاولة غير موفقة أشاروا  على امهر من يتسلق تبلدية في المنطقة أن يلحق بي ويربطني إلى نفسه بثوب ولكنه فشل في أن يصل إلى مكاني عند فريع الموت ، ثم عدلوا عن الفكرة بان ينشروا الثوب بينهم واقفز فيه ، واخيراً اهتدوا إلى أن يستبدلوه بعنقريب يحملوه بين أيديهم واقفز فيه ، داعبت نفسي بنفسي برغم الضجيج الذي اسفل مني ، ابتسمت إليها في محاولة يائسة أن اطرح خلفي هذه التبلدية المسقوفه بالأشياء الرمادية وان انفذ إلى عالمهم الذي يشبه غمامة من عطر اسفل مني ، وصرت عصفوراً ذهبياً جميل الشكل يتحلق حولهم يحمل في منقارة أوراق  عفوس ندية ، وصرت أوزعها علي كل نساء البلدة بدءًا بالفقيرات النازحات المسحوقات بين أنياب الحياة اللائى لاكتهن أضراس الزمن القاتم أمثال (بت خاطر) التي جرفها تيار النزوح والجفاف إلى البلدة فأضحت مستأنسة بالجوع والمسغبة والعوز مستعيضة بالعفوس بالسقدى مع تكريعة من مريستها المشوشوة متوارية خلف الحجيل بداخل راكوبتها الكثيرة الرقراق وكنا نستحضرها في حجواتنا تحت ضوء القمر .

: حجيتكم ما بجيتكم

: خيراً جانا وجاكم

: أم شنقنق الفي قعر البيت تنقنق دي شنو ؟

ويظل يبحث أحدنا في مؤخرة ذاكرته صائحاً :

: دا البجبجي (مطبوخ مسحون حب البطيخ)

: كضباً كاضب

ويقفز الآخر

: دى برمة الروابة (اللبن الرائب)

: كضباً كاضب نركبكم ولا تدوني لي دار ويهتف الخبثاء منا

: ركبنا !!

: ركبتكم ما ركبتكم ، ركبتكم ليكم في بعيشيم اجيرب يزرع في بطيناتكم ويتيرب أم شنقنق دى مريسة بت خاطر .

     وهكذا تحلقت موزعاً عفوسى ، والناس اسفل مني يحملون العنقريب ، أخرجت عين واحدة من محجرها وكان مسلياً النظر إليهم بها ، فظلوا يتطاولون ويستطيلون ثم يتربعون ، وقليلاً قليلاً يصيرون اصفاراً تتجمع كنتفٍ من عوالم قديمة تستيقظ في ذاكرة حلمي فإذا بهم أفراد شرطة تجرجر بت خاطر يسحبونها بثوب زراقها الذي غدا اثمالاً ويدوسون عليها فتستفرغ عفوسى اخضراً برائحة خمرتها المشوشوة ، و أخرجت عيني الأخرى فتكاملت الصورة وتشكلت تلك الأصفار أناس يتصايحون اسفل مني .

: اقفز .. اقفز .. اقفز فوق العنقريب

     رفعت رأسي الملتصق قليلاً وشعرت بارجلي ويدي تحاولان الحركة وتغيران وضع الالتصاق الكامل بفريع الموت إلى وضع التهيؤ للقفز لكن فضاءَ بيني وبين العنقريب جعلني أتراجع إلى سابق وضعي سريعاً وتركت أذني تتابعان ضجيج الناس وكلماتهم المشفقة .

: الوليد دا احسن تدلوه قبال الهبوب الجاية دى

: كتكريه دى كان جات والله توديهو في أم طرقاً عراض

     جلست إلى انفي تحدثني عن تصيدها لرائحة دعاش قادمة مضخمة بروث البهائم ورائحة المشك الجافة ، عادت أذناي لتلتقط الصيحات المنذرة بقدوم اجتياح ترابي وهفهفة إعصار قادم .. وفتحت عيناي علي تراكم السحب الداكنة التي أضحت مربط عجيل ، والرياح تلون الأفق الشرقي بلون الدم المسفوح ، انعكست أشعة الشمس عليه ، والسماء تحاول ترشح دمعاً كثيراً ، والسحب مرشوشة بمسحوق احمر من الغبار والكتاحة ، انتقلت الأصوات اسفل مني من مرحلة الرجاء بالقفز إلى مرحلة صياح ملؤه الخوف و الانذار بالشؤم والخطر القادم .. تبينت صوت أمي الذي بح ، مواء أخواني الصغار ، وثغاء رفاقي ، فعدت مرة أخرى إلى وضع التهيؤ إلى القفز ، بأن تحركت مني الرجلان واليدان بين ارتشاقي النظري إلى الهبوب القادمة بكل عنفوانها وبين جدلية سقوطي المحتمل ، وتهشمي كبطيخة تعدت طور النضج متفتتاً ، لكني فضلت هذا التفتت ، من غياهب سرمدية بعيدة تناهت إلى أصداء

: اقفز اقفز

    فقفزت بعد أن تحررت كل أعضائي من اسر الالتصاق بفريع الموت و هانذا اهبط كأني أطير ، والمسافة تراءت لي بعيدة وقريبة ، وصلني صوت ارتطامي باحدي زوايا العنقريب ، و انثني ظهري كالياي المضغوط بين اصبعين ، وتناثرت زوايا العنقريب الأربع وظلت تطارد حاملي العنقريب ومن في جوارهم وهويت .

صحوت وجرعات من الألم تطال كل أعضائي بقايا دماء ودموع مالحة عبرت إلى حلقي الجاف ، ولفافات بيضاء تدثرني وجبص سميك يشل عضوي، وبعين واحدة صعب علي فتحها رأيتهم يتحلقون حولي تبينت صويحبات أمي مشتهيات العفوس بالدكوة وبت خاطر التي تفضله بالسقدى يسبقهن نشيج أمي

: حمداً لله علي سلامتك

وعلمت أنى كنت اصطاد الثراء في وادى مجهول

 

                                          تمت

عبد الباسط آدم مر يود
ود مدني 6/7/1998

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون