يا مسافر حليلك...يا حليل إبتسامك

 

  للكاتب : صلاح الباشا... الدوحة

 

  كنت جالساً أمسية الخميس الخامس من سبتمبر الجاري أمام جهاز الكمبيوتر أتصفح في صحافة الإنترنت لأري مايستجد في كل شيء، وقد كان ذلك .. في منزلي بالدوحة . فقد أصبحت تكنولوجيا المعلومات تستأثر علي جزء عزيز من وقتنا .. فالإثنان (الإنترنت والفضائيات) يأخذان من وقتنا الكثير فعلاً ..للدرجة التي أصبحنا فيها نتابع التلفزيون ونتصفح علي الإنترنت وندردش مع الأصدقاء عبر البحار عن طريق المسنجر والهيدفون وكاميرا الإنترنت .. كل ذلك دون أن ندفع فاتورة محادثات هاتفية أو شراء بطاقة تلفون ..   وفي تلك اللحظات وأنا أمام الجهاز أواصل تصفحي علي الإنترنت.. شدتني أغنية في برنامج مساء الخير من الفضائية السودانية حيث كانت الحلقة مسجلة من ودمدني وقد بدأت بمقابلة من محكمة العمد بقرية أم سنط العريقة (ضاحية ودمدني) .. فإستمتعت بحديث الأخ الكبير عبالرحيم الريح بابكر – العمدة الحالي – الذي ورث العموديه من والده الراحل الكبير العمدة الريح بابكر .. فتذكرت الراحل العم العمدة الريح حين كان مقر المحكمه في مدينتي الصغيره (بركات) .. فجذبني حديث نشأة المحكمه إلي ذكرياتنا مع والدنا الراحل الموسوعة في الحكاوي والأحداث ..خاصة في ذكريات تطور ونشأة الجزيرة .. والدي الراحل الخليفة علي الباشا ( صاحب الملف رقم واحد ) في سجل العاملين بالمشروع .. وقد كان عضو تلك المحكمه الأهلية  بمشروع الجزيرة ببركات خلال  أزمنة سحيقة ماضية  فقد كان الوالد  صديقاً حميماً للعمدة الريح ..

    وبعد تلك المقابلة من خلال برنامج مساء الخير من قرية أم سنط ، وإنتقال كاميرا البرنامج إلي مادة أخري من مدني .. فإنني أطفات جهاز الكمبيوتر إستعداداً للخروج في  مشوار زيارة قصيرلأحد الأصدقاء .. وقبل أن أهم بإغلاق التلفزيون جاءني صوته .. صوت صديقنا  الكبير الفنان (محمد مسكين) وقد كان يردد رائعة الشاعر والأخ الكبير فضل الله محمد  مع موسيقي  الفلوت في مقدمتها الشهيرة:

يامسافر حليلك .. ياحليل إبتسامك

ياحليل الليالي الحلوات في غرامك

أيام بالإشاره كنت ترد سلامك

ياما عيوني كانت .. تسهر من كلامك

والذي أدهشني أن تلك الأغنية قد تم بثها صوت فقط (أوديو) وفي نفس اللحظة كانت صورة محمد مسكين تغطي الشاشة وحولها باقات من الزهور في شكل إطار جميل ثم كانت  الفاجعة أن أعلن مقدم البرنامج بصوته كخلفيه للأغنية الخالدة وكأنه كان يخاطبني لوحدي .. حين كنت واقفاً مشدوداً أمام التلفزيون ليقول لي .. لنا .. وللمشاهين ..ولأهل ودمدني .. ولأهل السودان في كل الدنيا من خلال برنامج مساء الخير ذاك: لقد رحل عن الدنيا قبل سويعات قليلة صاحب هذا الصوت الجميل  ..رحل الفنان (محمد مسكين) .. فظللت مشدوهاً أمام الجهاز .. فالموت علينا حق .. وهو سنة الله تعالي في الأرض .. غير أنني شعرت بدوار أقعدني فوق أقرب مقعد في صالون منزلي .. وفي تلك اللحظات ذرفت عيناي دمعاً ساخناً .. وانتحبت .. وإستغفرت الله تعالي وطلبت الرحمه له .. ليس لأن محمد مسكين هو فنان مدينتنا .. مدينة الأحلام .. ودمدني الجميله .. مدني يا أجمل خبر مثلما كتبها شاعرها جمال عبدالرحيم الشاعر وترنم بها صديقنا عبدالفتاح السقيد مبكرا.. بكيت بحرقة ..  ليس لأن محمد مسكين إفتقدته الحركة الفنية .. ليس هذا ولا ذاك .. بكيت ..  لأن محمد مسكين كان يعود بنا عند سماعنا لصوته في أغنياته الرائعات إلي أزمنة كانت كلها ألق وإشراق .. وإلي أمكنه كانت كلها إبداع وفرحة وأمل .. حين كان زمان السودان كله جميلا ورائعاً . حين كانت مفاصل الحياة متوازنة إبان حقبة تواجدنا في ودمدني قبل أن تلتهمنا مدن المنافي ويحدث هذ التشتت المؤلم الذي فرضه الزمان الجائر علي معظم شباب وكفاءات بلادنا .

بكيت لأنني تذكرت وقتها وفاء الرجل (محمد مسكين) حين شاهدناه في دارنا ببركات وهو ينتحي بعيداً عن ناصية صيوان العزاء في فقيدنا وفقيد الجزيرة الراحل حسن الباشا في مايو 1997م .. كان محمد ينتحي جانباً وهو يـتفجر بكاءً ساخناً وبصوت عالي .. ولم تفلح كل محاولاتنا في أن نوقف بكاءه المؤلم ذاك .. كان يبكي حسرة  في فقده لصديقه حسن الباشا .. كان مسكين دوماً وفياً .. مهذباً ..رقيقاً وراقياً في تعامله مع الناس .. كل الناس ..وكان مرهف الإحساس .. طيب القلب .. نقي السريرة .. وأشهد الله أنني ظللت كل ما أقابل الراحل – محمد مسكين - مصادفة في أحد شوارع ودمدني فإنني أري من خلال سلامه لي أن الدموع تكاد تطفر من عينيه .. وكنت أفهم الإشارة . أفهم سبب نزول دموعه.. أنه لم ينس بعد صديقهُ الوفي الراحل حسن الباشا .

كان الفنان محمد مسكين علامة بارزة ومعلما هاماً من معالم مدينة ودمدني -  بل في كل ولاية الجزيرة .. كانت رائعته الخالدة (من أرض المحنه .. ومن قلب الجزيرة .. برسل للمسافر أشواقي الكثيرة) التي كتبها صديقنا الكبير الأستاذ فضل الله محمد في بدايات ستينيات القرن الماضي .. كانت الأغنية -  وستظل كذلك -  خلفية رائعة حين يأتي الحديث في كل مناسبة أومن خلال برنامج إذاعي أو تلفازي عن الجزيرة أو عن مشروعها (الذي كان عملاقا) .

رحمك الله يا مسكين وأنزلك فسيح جناته .. فقد كنت والله.. رمزاً ورقماً في حركة الفن والإبداع لا يمكن تجاوزه .. وسنظل نردد  من بعدك روائعك (يا شارع الحب يا أحلي طريق)  بمثلما نردد أيضاً (خمسه بنات حلوات .. سمحات زي الوردات) .. ذلك الغناء اللطيف الخفيف الجميل الذي يكسبه صوتك الندي ذي التطريب العالي روعة ما بعدها روعة .. وستظل مقدمه الأغنية الخالده بالفلوت الذي طبعه علي مسامعنا عازف الفلوت وإبن ودمدني الأخ (صلاح مبارك) .. ستظل تلك المقدمه أيضا راسخه في وجداننا .. بل لقد كانت تشكل و جداننا بالكامل حين ظهور تلك الأغنية في ذلك الزمان.

ختاماً نقول .. نم يا محمد مسكين قرير العين في جنات الفردوس إنشاء الله .. لترفل فيها مع أخوانك الذين سبقوك من مبدعي المدينة الراحلين.. وقد مر شريط وجوههم بخاطري الآن .. كانت وجوههم مشرقة مثل نوار الشجر عند إرتداء أرض الجزيرة حلتها الخضراء الزاهية من خلال فصل خريف جميل في ذلك الزمان الجميل .. تذكرت الآن تلك الوجوه  المشرقة: عمر أحمد  كان بدري عليك تودعني وأنا مشتاق ليك – الكاشف صابحني دايما وإبتسم – علي المساح يا الشاغلين فؤادي– الخير عثمان حنتوب الجميله  – محجوب عثمان ليه ليه ياالنسيت أيامنا ليه– الشاعربدوي بانقا ما أجملك – عبدالرحمن خواجه يا ربيع الدنيا – الموسيقارصديق دفع الله وفرحة الكمان– بدر أنجلو وصولة الكمان – رمضان حسن الأمان الأمان من فتكات عيونك – رمضان زايد .. أنا ليتني زهر في حدك الناير .. خليك مع الزمن. وحسن الباشا يبرق سناك في غيهب الليل الحلوك... الأوصفوك ... عليهم الرحمة أجمعين .. والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

 

راسل الكاتب